(لمناسبة الذكرى المئوية لميلاده)
ترجمة: أحمد المديني
منذ سنوات خلت شيدت تيلاتلان بالحصى والبقايا والإعشاب، أتذكر السور، الأبواب الصفراء بعلاماتها، والأزقة الضيقة المقززة التي تسكنها عامة صاخبة، القصر الأخضر للحكومة والبيت الأحمر للقرابين، المفتولة يده بمعابده الخمسة وممراته العديدة تيلاتلان مدينة رمادية علي قدم الصخرة البيضاء، مدينة مشدودة الى الأرض بأظافر وأسنان، حاضرة في الغبار، الصلوات ، سكانها دهاة احتفاليون، ومغضبون؛ يعشقون الأيدي التي خلقتهم ولكن يخافون الأقدام القادرة علي سحقهم.
ديانتهم وقرابينهم المنتظمة التي كانوا يحاولون بها شراء هذه الأيدي والاطمئنان علي حرصها لم تمنع قدمي اليمني ذات صباح فرح من أن تسحقهم، مع تاريخهم وارستقراطيتهم الشرسة، وكلامهم المقدس، وأغانيهم الشعبية، ومسرحهم الشعائري. ولم يتشكك رهبانهم أبدا أن الإقدام والأيدي كانت أعضاء لنفس الإله.
12
بصعوبة، وأنا أتقدم بضع مليمترات كل سنة، كنت اشق لي طريقا بين الصخور. منذ آلاف السنين وأسناني تستنزف وأظافري تتكسر لكي أصل هنا، في الجهة الثانية، في الضوء والهواء الحر، والآن ويداي تنزفان وأسناني تصطك محشورا في تجويف متصدع بالعطش والغبار، أتوقف لأتأمل عملي: لقد قضيت القسم الثاني من حياتي في تكسير الحجارة في ثقب الأسوار، في اختراق الأبواب وإزاحة العراقيل التي أقمت بين الضوء وبيني طيلة القسم الأول من حياتي.
13
شعبي، شعب تغذيه أفكاري الهزيلة بالفتات، بصور مستنفذة مستخلصة بإنهاك من الحجارة!
إنها لا تمطر منذ قرون. وما تبقي من عشب نادر علي صدري جف تحت الشمس. أما السماء، الملونة بالنجوم والسحب فهي في كل يوم اعلي فأعلي. ودمي يتعب في شرايين متصلبة. لا شيء يهدئك، كل الكلمات ماتت عطشا. لا احد يستطيع أن يتغذي من هذه البغايا اليابسة، حتى كلابي، عللي.
فيا أمل، أيها العُقاب الجائع، اتركني علي هذه الصخرة الشبيهة بالصوت. وأنت أيتها الريح التي تهب من الماضي، هبي بقوة، بعثري هذه المقاطع، لتصبح هواء وشفافية، لأكون أخيرا كلمة، قليلا من الهواء في فم صافية، قليلا من الماء في شفاه نهمة!
ولكن ها هو ذا النسيان وقد نطق باسمي: انظر اليه يلمع بين شفتيه مثل عظم يلمع لحظة في جوف ليلة ذات سواد مشعر، والأغاني التي لم اقلها بعد، أغنية الرمال المصفاة، ستقولها الريح مرة واحدة، في جملة واحدة لا نهائية، بلا بداية، ودون نهاية أو غاية.
14
مثل ألم يتقدم ويشق طريقا بين أحشاء تستسلم وعظام تقاوم، مثل مدية تحز الأعصاب التي تشدنا الى الحياة، ولكن، مثل فرحة مفاجئة، كما لو انك تفتح بابا يشرف علي البحر، مثلما تنحني نحو الهلاك، وكما لو انك وصلت الى القمة، مثل نهر الماس إذ يخترق الصخر أو الشلال الذي يسقط في صورة انهيار تماثيل ومعابد بيضاء، مثل الطائر الذي يصعد والشهب
ينزل، آه يا خفقان أجنحة، آه يا منقارا يمزق ويفتح أخيرا الثمرة! أنت، صرختي، نثار ريش من نار، جرح رنان، وشاسع، كما يحدث حين ينفصل كوكب عن جسد النجم، سقطة لا نهائية في سماء الأصداء، في سماء الأصداء، في سماء من المرايا التي ترددك وتكسرك وتجعلك متعددا، لا نهائيا، غُفلا.
(*) عن صفحة أوكتافيو باث Octavio Paz/ فلهم الشكر!