انهمك الكون في رسم فجر يومٍ جديد بإتقانه الأزلي، غير مكترث البتّة بشيء مألوف لدى البشر، يسمونه في كل لغات العالم “الملل”، خاصةً أنه فجرٌ في عام يحمل رقمًا يزيد على الأربعة بلايين ونصف منذ خُلق هذا الكوكب الأزرق..
يتجلى المشهد اليومي المتكرر من تحت خيمة الليل السوداء الهائلة بالنسبة لإنسان واحد على الأقل، كهذا الطفل النائم بين رجلي والده الذي يحتويه مثل الكنغر، في سيارةٍ للنقل الآدمي والحيواني وخلافه، تحمل كومة بشرية مظلمة تتنفس، لا يطفو منها سوى رأسه الصغير..
على التوازي، ريشة الرسام الرفيعة تعمل ببطء على محو اللون الأسود شيئًا فشيئًا، تؤثّر فيه بعض ألوان السماء التي تقترب من البنفسج فتمتص روحه الداكنة، آخر مَلك ظل ماكثًا منذ ليلة أمس على الأرض من المؤكد أنه قد صعد الآن، جناحاه يضربان الهواء بقوة وتتناثر منهما لآلئ عجيبة تغزل خيوط نورانية متناهية الرقة كأنما تولد من رحمٍ مختبئ، تسبق رأسَ المولود الشمسي القديم، يصنع الجناحان معًا رقم “ثمانية” بالإنجليزية، كأنها علامة “اللانهاية”..
فتح الطفل عينيه كرجلٍ يمارس الأرق طوال حياته، نائمًا مستيقظًا، لا فرق بينهما، بنظرةٍ جامدة تخلو من أي دهشة، يضرب الهواء البارد وجهه الأبيض المستدير، اعتدل في موضعه قليلًا بمقدار ما سُمح له به، ثم أخذ يراقب الشرائط الطويلة التى تخرج من جسد السيارة : الخطوط البيضاء المرسومة فوق الطريق الرمادى..
مازال شبح القمر مرئيًا في قبة السماء، تكسوه عتامة ضبابية تكشف عن طبيعة الطقس الجديد، وهنت كل النجمات أمام جبروت الضوء الذي لم يظهر بكامل سطوته بعد، وكأن الصمت الصاخب للحوادث الأكثر أهمية في الكون قد طغى على الطفل الصغير المحدق في الخطوط البيضاء ذاتها المرسومة فوق الطريق الرمادي..
حتى تلك اللحظة لا يبدو أن هناك شيئًا جديدًا ستحدثه البداية الحتمية اليومية، لولا تلك العقدة الصغيرة، العقدة المصنوعة من الخوص الرفيع، مربوطة – كمثيلاتها- في غطاءٍ خشن استخدمه سائق سيارة النقل كسقفٍ يعلو الكومة البشرية مثبّتًا في هيكلها، ساعد في هذا جانباها المرتفعان كسياجٍ يغلق على من فيه إلا مِن الحائل الأمامي الذي يقل ارتفاعه عن الآخرَيْن.
عند أعلى حرف الألف الثاني من كلمة “السعادة” المطبوعة على الغطاء، حاك السائق تلك العقدة وأفلت أحد طرفي شريط الخوص فانتصف إحكامها، وصارت الأضعف بين قريناتها، عرّضها ذلك طيلة الطريق الذي سينتهي بالركاب عند وادي النطرون إلى ضغط الهواء المستمر، وقد يعرضها في أي لحظة إلى التمزق..
بعد شروق الشمس، تتعرّى السماء للأرض كليّةً، وتبرز مفاتنها للبشر، فتستحث الحياة بعضهم كي يعانقوها بحب، أو كي يشتبك معها آخرون، بينما تجبر أغلبهم على الثبات أمام كل ما يحدث للمشاهدة فحسب، في الوقت نفسه كانت تصدر أصوات الاستغراق في النوم من كومة اللحم وقد شرعت ملامحها في الاتضاح خلف رأس الطفل المطرق في الخطوط البيضاء المرسومة فوق الطريق الرمادي..
في إحدى الزوايا، ظهرت ساق من البوص مرتكنةً بين رأسين في السيارة عندما نفذ شعاع من فراغٍ أحدثه انسحاب الغطاء إلى جهة اليمين، بفعل ريح قوية شرعت في الهبوب بشكلٍ تصاعدي.
لا يهم الآن بالطبع في أي مصرفٍ أو ضفة نهر ملوث كبرت تلك البوصة بصحبة مجموعات من القيصوب الأجوف، ما يهم هو أنها ليست “نايًا” وإنما “نارجيلة” تغوص دائرتها السفلى – حيثُ تنتهي ساقها – بين جسدين، محدثةً أثرًا مؤلمًا في ظهر أحدهما، جعله يستقيظ غضبان ليدفعها ناحية جاره الغارق في نومه، فخبطَت يده المرفوعة الغطاء العلوي مما أحدث ضغطًا أكثر على عقدة الخوص الضعيفة.
أرّقت حركة الرجل نفرًا آخر نصف مستلقٍ إلى جواره، كان ملتذا في حلم ممتع يضاجع فيه الفتاة التي تستقل السيارة معهم وعلى بعد جسدين فقط منه، وقد نام رأسها على صدر زوجها، تنبّه الرجل الحالم إلى بروزٍ من تحت جلبابه
حاول أن يبحث بيده عن شيء يستره، كان أغلبهم نصف راقد فوق ما تبقى من القش المدفون بين قطع الأدوات الصحية المنقولة قبل عدة أيام في نفس السيارة، تخيّل الرجل الفتاة عاريةً تراوغه فوق القش ذاته في مكان أرحب مثلما رآها في الحلم، يسري خدرٌ لذيذ في جسده كلما داهمته عيدان القش مدفونةً بين طيات جسدها، عالقةً بشعرها الأشعث، مصفوفةً بعشوائية بين فقرات ظهرها.
أخذ حفنةً منه بقوة كالقابض على جسدها ثم تلكّأ قليلًا وهو يغطي به عورته الناتئة. لم يستطع كبح نفسه فترك كل الأشياء التي كان لا بدَّ من حدوثها كي تحدث بشكلٍ أحادي، حاول كتمان أنفاسه المتلاحقة لكن الوقت قد فات لأن زوج فتاة أحلامه قد صحا على لهاثه وعينيه الزاحفة إلى صدر زوجته النائمة، أما ابنه: الطفل الصغير في حجره، كان يتابع باهتمام الخطوط البيضاء المرسومة فوق الطريق الرمادي..
ما الذي يجب أن يحدث؟ دب شجارٌ عنيف ودامٍ بين الذكرين، أوشك الزوج في أثنائه على قذف غريمه من السيارة المسرعة، اجتهد الاثنان في الوقوف لكن في كل مرّة كان الغطاء يردُّهما ويكلفه ذلك الكثير من إحكام العقدة الأضعف ثم من باقى العقدات الواحدة تلو الأخرى حتى أفلتَ الغطاءُ منها النصفَ تقريبًا وتدلّى الطرف الحُر فوق الرؤوس..
غضب السائق وأخذ يدق فوق الحديد الفاصل بينه وبين الكومة مهددًا إياهم بالرمي خارج السيارة، كان على الطفل أن يغادر ضمة والده إلى ذراعي أمه والتي زُحزحت إلى موضعه خلف الحائل الأمامي المتأرجح، ثم عاود النظر في الخطوط البيضاء المرسومة فوق الطريق الرمادي..
استفزت الريح وهج الشمس، انبعجت جلودُ وجوه المسافرين على نفس الطريق وتقعّرت بفعل قوتها، عانت العيون من أقذائها،، يقف غرابٌ وحيد فوق أسلاك التليفون المعلقة كأوتار مرتخية، ينعق بصوتٍ يتلاشى تدريجيًا مع مضي السيارات، تلوح صورة مَوجيّة لـ”تريلا” ضخمة بفعل البخار المتصاعد في الأفق
رفع الطفل رأسه عن الخطوط مبتسمًا للكائن الكبير المقبل والذي سمّاه عن فوره: “قطة”، اشتدت الرياح وهي تعانق وجه الطفل المبتسم الناظر إلى “التريلا” متشبثًا بالحائل الأمامي المتأرجح، ظهرت مقاومة عقد الخوص المتبقية لجذب الريح العنيف، وأخذ الطرف الحر في الارتفاع، يريد حَل قيوده في الأسفل، تمزقت العقد كلها، وتخلص السقف من الأسْر فطارَ مع اتجاه الرياح التي طاوعها امتنانًا لها، آذت الشمس عيون الركاب
وشَعرَ النائمون منهم بالانزعاج والمستيقظون بالعري المفاجئ، انبسطَت كلمة “السعادة” المطبوعة فوق الغطاء من جديد، وانفرجت معها أسارير الطفل أكثر وهو يشاهد السقف الطائر.
زاحمت “التريلا” سيارات الطريق بسرعةٍ جنونية حتى جاء دور سيارة النقل، في تلك اللحظة قررت الريح أن تأخذ “سعادة” الغطاء إلى زجاج “التريلا” الأمامي والذي قد التصق به فحجب الرؤية عن السائق لثوانٍ، وقبل أن يمد يده من نافذته مذعورًا لنزعه، كان هناك التصاقٌ آخر قد حدث.. ما يُرى الآن هو هبوط غطاء خشن مطبوع عليه كلمة “السعادة” فوق سيارة نقل آدمي، وبقع كبيرة حمراء تغطي الخطوط البيضاء المرسومة فوق الطريق الرمادي..
** من مجموعة “قطر الندى الأحمر” – غير منشورة .