إنهم نفس تجار الشريعة الذين يخاطبون الجَهَلَة وأنصاف المتعلمين وحَمَلة مؤهلات الضحالة من الجامعات المصرية، ويصرخون زعمًا بأن لجنة الخمسين لكتابة الدستور تجور على الشريعة وتنزع عن المصريين هويتهم الإسلامية!
هؤلاء كَهَنَة وسدَنَة المتاجرة بالدين فاحْذَرُوهم!
هؤلاء خُبْث حياتنا الذين حوَّلوا الدين إلى مَطِيَّة واشتغلوا فى مسح دماغ المصريين ويتجاهلون أن مصر تطبق الشريعة الإسلامية فعلا!
ويجعلون من أنفسهم مدافعين عن شريعة هى مَصونة ومحصَّنة ومُهابة لا تحتاج إلى هؤلاء المتنطعين!
سأعود إلى ما كتبته من قبل عن الشريعة لنعرف ما الشريعة الإسلامية ونرى هل نطبِّقها أم لا؟
الإسلام يا إخوة عقيدة وشريعة، أما العقيدة فهى الإيمان بالله، وأما الشريعة فهى العبادات من الصلاة والزكاة والصوم والحج وكذلك المعاملات التى تتفرع إلى الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وخلع، وإلى المواريث والبيع والشراء والمعاملات المالية، ثم أخيرا العقوبات الجنائية التى تشمل الحدود.
تأمَّل وانظر وجاوب، هل نحن نطبِّق شيئًا غير الشريعة؟
كل ما نفعله ونطبِّقه هو الشريعة الإسلامية ولا يوجد أى مخالفة لهذه الشريعة فى حياتنا منذ قرار إلغاء «البِغاء الرسمى» ومنع التصريح بفتح بيوت دعارة فى منتصف الأربعينيات، لكنك هنا ستسمع شيئين: الأول أننا لا نطبِّق الحدود، والثانى أننا نتعامل بفوائد البنوك، أى الربا، وهى محرَّمة وضد الشريعة.
سأجيب عن ثانيا قبل أولا، وهو أن هناك من الشيوخ والعلماء من أحلّ فوائد البنوك وهى ليست محل إجماع مطلق كامل بحرمانيتها إلا من شيوخ الوهابية والشيعة فقط، والفتاوى التى تحلل فوائد البنوك لا تحلل الربا بل تحرِّمه، وإنما تنفى عن الفوائد تعريف الربا، وهى فتاوى ليس من الضرورى أن تقرّ صحتها ولكن من المهم أن تقرّ بوجودها.
لا يعنى هذا أن الربا حلال ولكن يعنى أن الفوائد ليست ربا.
ثم ننطلق إلى الحدود ونتأمل هنا نقطتين: أن مصر لا تُسقِط أى عقوبة على الجرائم التى حددتها الشريعة ولكن تعاقب بعقوبات غير الحدود، بمعنى أن شارب الخمر لا نجلده ولكن السُّكْر البَيِّن يعرِّض صاحبه للسجن. «بالمناسبة شهدت الدولة الإسلامية محالّ لبيع الخمور رغم منع الخمور وبيعها!»، وهذا ينقلنا للإمام الأكبر محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر الراحل، وهو يتحدث عن نوعَى العقوبة فى الشريعة الإسلامية، النَّصِّيَّة «التى جاءت نصًّا فى القرآن الكريم» والعقوبة التفويضية التى تطلق عليها الشريعة مصطلح «التعزير»، وهو طريقة التفويض للإمام فى أن يعاقب على بعض الجنايات بعقوبة يراها رادعة، ويكون فى الجرائم التى لم تحدد لها الشريعة عقوبة معينة، وفى الجرائم التى حددت لها عقوبات ولكنها لم تتوافر فيها شروط تنفيذ هذه العقوبة، مثل أن لا يشهد بالزنى أو القذف أربعة، أو وُجدت شبهة فى الزنى، أو السرقة، أو القصاص، أو حصل شروع فى قتل ولم يحصل القتل، «يعنى تقريبا كل قانوننا المصرى يا إخوة!».
وقد قال ابن القيم فى كتابه «إغاثة اللهفان»:
«الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة، وهو عليها، لا بحسب الأزمنة، ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات، ولا الحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك. والنوع الثانى ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له، زمانًا، أو مكانًا، أو حالًا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوّع فيها بحسب المصلحة».
وبهذا يتضح كما يقول الشيخ شلتوت أن هذه العقوبة التفويضية أساس قوى، ومصدر عظيم لأدق قانون جنائى، تُبنَى أحكامه على قيمة الجريمة، وظروفها المتصلة بالجانى والمجنى عليه، ومكان الجريمة، وزمانها، فى كل ما يراه الحاكم اعتداءً على حقوق الأفراد، أو الجماعات، بل فى كل ما يراه ضارًّا بالمصلحة واستقرار النظام.
المعنى الذى نفهمه من التعزير ومن تفسير الشيخ شلتوت ومَن سبقه من الأئمة العظام أن التعزير هو القانون الوضعى.
القانون الوضعى المتهم من السادة المتطرفين هو فى أصله وجذره قلب الشريعة الإسلامية، وهو لا يُحِلّ حرامًا ولا يحرِّم حلالا، ولكنه يعمل بالمصلحة للأمة، فالحقيقة أن الشريعة الإسلامية مثلا لا تمنع تجارة العبيد والنخاسة وشراء الجوارى وما ملكت اليمين، لكن القانون الوضعى هو الذى أوقف تجارة العبيد، فهل نطالب بتطبيق الشريعة وإعادة تجارة العبيد أم نسلِّم بأن القانون الوضعى طبَّق مقاصد الإسلام فى الحرية حين جرّم العبودية بالقانون!
المصدر:جريدة التحرير