ابراهيم عبد العزيز سعودي يكتب : مسوّءَة الدستور والعصبة الدستورية
مسوَّءَة الدستور والعُصبة الدستورية
في نقد مسودة الدستور
بقلم : إبراهيم عبد العزيز سعودي
يا الله … ماذا تفعل بنا هذه اللجنة التأسيسية للدستور التي تضم في أغلبيتها الغالبة وقوتها الضاربة تشكيلا لا يفقه للدستور معنى ولم يسبق له أن قرأ دستورا أو خط سطرا في قانون . يا الله … ما الذي تفعله بنا هذه العصبة الدستورية ، التي اختير قوامها المهيمن على سند من معايير أيدلوجية وحزبية وشخصية ضيقة ، فإذا بهم يتركون هامات وقامات دينية وقانونية ودستورية وفكرية وادبية ومجتمعية وعلمية ومهنية لحساب أسماء مجهولة شكلت ما يزيد عن نصف أعضاء الجمعية ، أشخاص لاتاريخ لهم في نضال أو دفاع عن الحقوق والحريات ، ولا اسهام لهم سبق في علم أو ابداع أو فكر أو رأي .
هذه اللجنة التي طالما صدعت رؤوسنا بأن انتظروا المنتج النهائي ، ولا شأن لكم بالأعضاء فالمهم هو الدستور الذي سيخرج ، والعمل الذي سينتج ، فإذا بهم يلقون في وجوهنا ما أطلقوا عليه المسودة الأولى للدستور ، كان أحق بهم أن يسموها المسوءة الأولى للدستور .
ما هذه اللجنة التي لا تصنع لنا دستورا جديدا يليق بثورة قدمت شهداء وضحايا وعيون ودماء ، فإذا بترزيتها المبتدئين يمسكون ببدلة مهترئة اسمها دستور 71 ليرقعوها لنا ، ثم يتفاخرون علينا ويمنون بما يصنعون طالبين منا أن نقارن ما ينجزون بدستور 1971 ليعايرونا حتى نرى ما نحن فيه من أملة تفضلوا بها علينا ، وكأن ثورة لم تقم . وطالعوا معي هذه المسوَّءة (وليست مسوَّدة ) والتي وان كانت تجملت ببعض الحقوق والحريات التي هي بديهيات إنسانية مفترضة ، فإن هذا التجميل لم يفلح في اخفاء جرائم وفضائح دستورية ، كثير منها موضوع لأهداف وأغراض تخدم مصالح معينة ، بعضها تفوح منه رائحة الجهل ، وبعضها يعج بالنفاق والمجاملة ، وأكثرها يتميز بركاكة الصياغة وتداخلالموضوعات . فمن يطالع مثلا الفقرة الأخيرة من المادة 130 منها يجد نفسه أمام مادة كاشفة فاضحة تدل بلا مواربة عن نفاق اللجنة التي تضع الدستور ومداهنتها لرئيس الجمهورية وخضوعها لسلطانه بما يفقدها كل حيدة ويخرجها من كل موضوعية ، إذ نصت على أن يكون رؤساء الجمهورية السابقون، الذين تولوا هذا المنصب بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، أعضاء فى هذا المجلس مدى الحياة ، ففضلا عن أنها نفاق فاضح لرئيس الجمهورية الحالي الذي لا ينطبق النص سوى عليه وحده حتى الآن ، فإن هذه الفقرة تفتح الباب لرئيس الجمهورية الذي يمثل بوضوح جماعة الإخوان المسلمين أن يرتكب طوال ما هو قادم من حكمه ما شاء من جرائم سياسية أو جنائية ، وأن يفعل ما شاء من خطايا في إدارة الدولة ثم يضمن الا يحاسب أو يساءل بما سيكون ممنوحا له من حصانة نيابية مدى حياته ، فهذا النص المسموم باختصار يعني ان رئيس الجمهورية لا يخضع لأي مساءلة أو محاسبة مدى الحياة .
ومما يرتبط بهذا الأمر أن وجود مجلس الشورى نفسه جاء ضرب من ضروب المجاملة بعد أن باتت اللجنة تردد في كل وقت وحين أنها في ضيافة مجلس الشورى ، وأنهم مدينون بالشكر والفضل لمجلس الشورى الذي يستضيف ويطعم الفم حتى تستحي العين ، وكأن رئيس مجلس الشورى يوزع عليهم من ماله أو يضيفهم في مسكنه وكأن أبنية المجلس وموظفيه وأجهزته المساعدة ليست ملكا لمصر . ومن الجرائم الدستورية النزعة الانتقامية والعدائية بل والتأديبية التي بدت واضحة تجاه المحكمة الدستورية العليا ، لا لشئ الا لأنها أنزلت صحيح حكم القانون والدستور بحل مجلس الشعب ، فتضمنت المادة 182 بغير مبرر أن المحكمة لا تفصل في الدعوى الموضوعية وهو ما لم يحدث من المحكمة في تاريخها وحاضرها مهما كذبوا وادعوا ، وهي مسألة تنم ليس فقط عن الجهل القانوني ، وانما عن قلة الذوق الدستوري والقانوني ، لأنهم لا يريدون منها سوى تأكيد وجهة نظرهم الشاذة والباطلة في حكم المحكمة بشأن عدم دستورية قوانين انتخابات مجلسي الشعب والشورى .
كما أنهم حرصوا على تكريس تبعية المحكمة الدستورية العليا لهم ، وبقاء تعيين قضاتها وفقا لهوى السلطتين التنفيذية والتشريعية حينما جاء نص المادة 184 مفتوحا على مصراعيه في هذه المسألة حيث تركوا مسألة من الذي يختار قضاة المحكمة الدستورية العليا من بين من ترشحهم جهات الترشيح القضائية لتصبح بالتأكيد في يد الفرعون الجديد الذي يصنعه هذا الدستور فردا كان أم جماعة ، فضلا عن التوسع في مسألة الرقابة السابقة رغم ما لها من مثالب وعيوب جسيمة يعرفها كل المشتغلين بالقانون والقائمين عليه . وثمة جناية أخرى يرتكبونها حين ينتقلون من أقصى اليمين في استفتاء مارس (استفتاء الجنة والنار) عندما قيدوا حق الترشح لرئاسة الجمهورية فحرموا منه كل من سبق له او والديه او زوجته التجنس بجنسية دولة أخرى ، ليعودوا الآن ويفتحوه على مصراعيه حتى لمزدوج الجنسية وان كان اسرائيليا على نحو ما ذهبت اليه المادة 136 من المسودة .
ومما يندى له الجبين ويكشف عن سوء النية وفساد الطوية ما يحتاطون له من أن يأتي البرلمان القادم بغير أغلبية لهم ، فلم يفوتهم أن يصنعوا للرئيس ما يمكنه منفردا من حل البرلمان ، فجاء نص المادة 145 لينص على حق الرئيس منفردا في حل مجلس النواب اذا ما اختلف الرئيس والمجلس عل تشكيل الحكومة وبرنامجها فرفض المجلس برنامج الحكومة ، ثم رفض الرئيس اقتراح المجلس في شأن تشكيل الحكومة .
ومؤدى ذلك في وضوح وبلا مواربة أنه في حال اقرار هذا الدستور واستمرار الرئيس مرسي وانتخاب مجلس نواب لا يحظى بأغلبية ترضي مرسي والإخوان ، فإنه يمكنه تشكيل حكومة لا ترضي البرلمان ، ثم يرفض هو اقتراح البرلمان بشأن تشكيل الحكومة ، ويكون له منفردا حينئذ حل البرلمان ليكون المصريون جميعا بين خيار قبول ما يراه الرئيس أو العودة الى المربع صفر .
الفضائح الدستورية في المسودة لا تعد ولا تحصى بما قد تتسع له دراسة قانونية ولا يتسع له مقال ، من إهدار حقوق وتضييق حريات ، الى صياغة رديئة غير منضبطة في الغالبية العظمى من النصوص ، الى تداخل عظيم واشتباك لا يمكن فضه بين سلطات الدولة ، الى توظيف للشعارات الدينية دون فهم عميق وصحيح للدين ، الى تفضيل بعض الأجهزة الرقابية والهيئات القضائية على بعضها البعض دون مقتضى أو مبرر غير المودة والكراهية وتصلب الرأي ، الى استخدام الفاظ مقعرة وغريبة كلفظ مفوضية الانتخابات الذي يتفلسفون به ، الى ربط ما لا يرتبط في نص واحد ، الى وضع نصوص مكانها الديباجة كمسألة نهر النيل وافريقيا واسيا والمشاركة الايجابية في الحضارة الإنسانية ، الى ابقاء على خطايا دستور 71 كمسألة عدم منع الوزراء إن يجمعوا بين الوزارة وعضوية البرلمان ، الى تكريس لحكم المرجعيات من الأشخاص التي لا يعرفها الاسلام الحق ولم يقرها الا تجار الدين ، الى الخلط بين مصطلحات قانونية ودستورية لا يفهمها الغلبة الغالبة من اللجنة التأسيسة أو من يصيغون لها . مصر الآن تنتظر أبنائها المحبين لها حقا من أجل نضال سلمي لمقاومة هذه العصبة ، لوضع دستور يليق بها ، نساءها ورجالها ، شبابها وشيوخها ، نخبتها وعامتها ، مسلموها المعرفون باعتدالهم ووسطيتهم وحبهم لبلدهم عبر تاريخها ، ومسيحيوها المعروفون بانتمائهم لوطنهم وسماحة نهجهم . وليمتنع الكارهون والحاقدون والساسة والمغرضون والمتفيقهون .