رغم أن السيناريو المصرى يهيمن على الفضاء التونسى، إلا أن الفرق بيننا وبينهم أنهم يرون الضوء فى نهاية النفق، إلا أننا مازلنا فى طور البحث عن النفق.(1)قصدت تونس مستجيبا لدعوة للحديث فى مستجدات المنطقة بعد تعثر الربيع العربى. وكنت قد أبلغت مسبقا بأننى سأتحدث إلى جمهور ثلاث جهات هى: مركز ابن رشد للدراسات المغاربية ومركز الفاضل بن عاشور للتنوير. ومركز الدراسات الأورومتوسطية للأبحاث والتنمية.. أخذت الرسالة على محمل الجد، وأعددت عدتى بالقدر الذى تيسر لى كى لا أخيب ظن الداعين والسامعين، إلا أننى ما إن وصلت إلى مطار قرطاج حتى غادرته بعد ثلاثة أيام لم أتحدث إلا عن مصر، لأننى لم أسمع سؤالا إلا عن أحوالها، حتى ما كان منها خارجا عن دائرة اهتماماتى، مثل التغريدات اليومية التى يسجلها ظرفاء المصريين والأغانى التى يتم التراشق من خلالها بين المعارضين والمؤيدين، حتى إننى فى بعض اللقاءات كنت أحيل الإجابة عن بعض الأسئلة إلى ما تبثه شاشات القنوات المصرية أو إلى ما بثته الجزيرة مباشر مصر، باعتبار أن الجانبين يعبران عن الواقع من زاويتين متعاكستين، تعبر كل منهما عن طرفى الأزمة بدرجة أو أخرى.مصطلح السيناريو المصرى تردد كثيرا فى المناقشات.
ولاحظت أن المقابلة بين الحاصل فى البلدين تتردد فى كل لقاء، باعتبار انه مقارنة بين ما شهدته أم الدنيا وما يجرى فى أم الثورات. والمقصود فى الإشارة الأخيرة تونس بطبيعة الحال، التى سبقت مصر. (وهو تشبيه غير دقيق لأن ثورة الحراك اليمنى سبقت الاثنتين). ولا أخفى أننى استفدت من المقارنات المستمرة بين ما جرى فى مصر وتونس، ليس فقط على صعيد المعلومات التفصيلية، ولكن أيضا لأننى وجدت أن أغلب ــ إن لم يكن كل ــ مظاهر الاحتجاج والتحدى التى مورست ضد الرئيس محمد مرسى جرى استنساخها على الفور فى تونس باستثناء المشهد الأخير المتعلق بتدخل قيادة القوات المسلحة لعزل الرئيس. من تظاهرات الشوارع ونصب خيام الاعتصام إلى تشكيل جبهة الإنقاذ وإطلاق حركة تمرد والانسحاب من المجلس التأسيسى المكلف بوضع الدستور، حتى خطة الطريق التى أعلنت فى الثالث من يوليو شجعتهم فى تونس على إعلان خطة طريق بديلة أعلنت فى مواجهة الحكومة. وحين أشرت إلى صدى أحداث مصر فى الفضاء التونسى، ذكرنى بعضهم بأن الثورة فى مصر كانت من أصداء الحدث التونسى، الذى نبه الجميع إلى هشاشة الأنظمة المستبدة وإلى قوة الشعوب حين تحزم أمرها وترفع صوتها.
ومنهم من قال إن الشباب التونسى نقل إلى الشباب المصرى أثناء الثورة خبراتهم فى التعامل مع قمع الشرطة وتجنب آثار القنابل المسيلة للدموع التى كانت تطلق على جموعهم.الشاهد أننى إزاء سيل الأسئلة والتعليقات التى ظللت أتلقاها حول الشأن المصرى، فإننى طويت الأوراق التى أعددتها للحديث عن تحديات الربيع العربى، وتفرغت للإجابة على تلك الأسئلة. لكننى صرت أشترط على من ألقاهم أن نخصص وقتا للتعرف على الشأن التونسى، من خلال المقارنة بين ما آلت إليه الثورة فى البلدين.(2)لم تكن الأوزان الاستراتيجية والسكانية موضع مناقشة. حيث لا وجه للمقابلة فى الثقل السكانى بين مجتمع التسعين مليون نسمة فى مصر وبلد الملايين العشرة فى تونس، ثم إن التحدى الذى تواجهه مصر التى زرعت إسرائيل على حدودها وللتنغيص عليها، يصعب مقارنته بتحدى السلفية الجهادية أو امتدادات تنظيم القاعدة فى الجنوب التونسى.
وربما كان الدور الحضارى الذى لعبته تونس فى المغرب مقابلا للأهمية الاستراتيجية لمصر فى المشرق. إلا أن الناظر إلى البلدين من على البعد يلحظ بينهما مشتركات عدة، فشعباهما قاما بثورة عارمة ضد الاستبداد، نجحت فى إسقاط رأس النظامين وإن بقى الجسم فى كليهما كما هو. والنجاح الذى حققته الثورتان رفع عاليا سقف التوقعات والآمال التى علقتها الجماهير على كل منهما. وفى مواجهة الخراب الذى خلفه النظامان فإن النظامين الثوريين فى البلدين استشعرا ثقل التركة، ولم يتمكنا من تلبية أشواق الجماهير على النحو الذى تمنته، الأمر الذى أثار درجات متفاوتة من البلبلة والاستياء فى البلدين.
وقد شاءت المقادير أن يفوز التيار الإسلامى بالأغلبية فى الانتخابات التى جرت فى كل منهما. ومن ثم كتب على حكومتى ذلك التيار أن تتصدى لعلاج الفجوة بين تطلعات الجماهير والقصور الحاصل فى إمكانات الواقع، (ثمة إحصاء رسمى فى تونس ذكر أن البلاد شهدت 35 ألف إضراب خلال 18 شهرا بمعدل أقل من ألفى إضراب كل شهر).فى البلدين أيضا قادت القوى المدنية، الليبرالية واليسارية والقومية، المعارضة ضد الحكومة، وعبرت عن ذلك من خلال الفاعليات التى سبقت الإشارة إليها. الأمر الذى غرس بذرة الاستقطاب فى المجتمع وحول فضاءه إلى معسكرين متقاطعين ومتناقضين. من ناحية أخرى أثبتت الأحداث أن التيار السلفى له حضوره المعتبر فى البلدين.
إلا أنه فى مصر تحالف مع سلطة الإخوان وانخرطت فئاته فى العملية السياسية وظل بعيدا عن العنف طوال فترة حكم الرئيس مرسى. أما فى تونس فالأمر اختلف لأن السلفيين هناك لم ينخرطوا فى العملية السياسية وإنما تعاملوا بحذر مع حكومة حركة النهضة، ثم تبين أن تنظيم القاعدة اخترق تنظيمهم من خلال الحركة التى سميت أنصار الشريعة، وأشارت التحقيقات إلى ضلوع عناصرها فى قتل اثنين من قيادات المعارضة. ولا يستطيع المرء أن يتجاهل حقيقة أن حكومة الانقلاب اعتبرت الإخوان وحلفاءهم متهمين بالإرهاب بعد الاعتصامات والمواجهات التى شهدتها مصر، فى حين أن حكومة حركة النهضة اتهمت أنصار الشريعة بالإرهاب فى تونس.(3)إذا كانت تلك هى القسمات التى تلوح للمراقب عن بعد، فإن الاقتراب من المشهد يبرز تفاصيل وتباينات فى الخرائط السياسية لا تلتقطها العين المجردة لأول وهلة. وأزعم فى هذا الصدد أن قراءة المشهد من زاوية التفاصيل تجعل الكفة تميل لصالح تونس، حيث ترى فيه عناصر ليست مرئية أو مرصودة فى الساحة المصرية. من ذلك مثلا أن إدارة الدولة ليست منوطة بحزب النهضة الإسلامى وحده، ولكن يشترك فيه حزبان علمانيان آخران هما حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل الديمقراطى.
ورئاسة الدولة ممثلة فى الدكتور المنصف المرزوقى من نصيب حزب المؤتمر، أما رئاسة المجلس التأسيسى فهى من نصيب حزب التكتل الذى يمثله الدكتور مصطفى بن جعفر. أما حزب النهضة الحائز على الأغلبية فقد منح رئاسة الحكومة التى يمثل الحزب فيها السيد على العريضى. وقد استقر الرأى على أن تشكل «الترويكا» على ذلك النحو رغم أن حزب النهضة له 90 مقعدا فى المجلس التأسيسى المنتخب ولم يفز الحزبان الآخران بأكثر من 12 مقعدا لكل منهما (مجموع أعضاء المجلس 217 عضوا).من ناحية أخرى، فإن الجيش فى تونس التزم طوال الوقت بالحياد بين الأحزاب المتصارعة ووقف بالكامل خارج السياسة، وذلك عنصر أسهم فى الحفاظ على مدنية الصراع وأبقى على التنافس بين الأحزاب فى إطاره السياسى الذى تحسمه الجماهير من خلال صناديق الانتخاب.من ناحية ثالثة يلاحظ المرء أن المجتمع المدنى فى تونس أقوى منه بكثير فى مصر، التى دمرت فيها هياكل ومنظمات المجتمع المدنى طوال عقود الاستبداد التى خلت.
ويشكل الاتحاد العام للشغل (اتحاد العمال) أقوى تلك المنظمات، ويصطف إلى جواره الاتحاد العام للصناعة والتجارة والرابطة التونسية لحقوق الإنسان ونقابة المحامين. ولهذه المنظمات دورها الفاعل فى الصراع الدائر حتى إنها قدمت خارطة طريق لمواجهة الأزمة السياسية الراهنة، عرفت باسم المبادرة الرباعية.قوة منظمات المجتمع المدنى تجاوزت بكثير قوة الأحزاب السياسية التى يصل عددها إلى نحو 140 حزبا، كأن الاستبداد فى تونس ركز على إضعاف الأحزاب السياسية ولم يكترث كثيرا بتنامى دور المنظمات الأخرى العمالية والصناعية والحقوقية. وترتب على ذلك أن عرفت الساحة شخصيات سياسية قوية نسبيا وأحزابا سياسية ضعيفة. وفى الانتخابات التشريعية التى أجريت فى عام 2011 نجح قادة الأحزاب فى حين فشل تمثيل الأحزاب التى حصل بعضها على مقاعد لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.(بسبب خصومة النظام السابق مع حركة النهضة فإن ساحة العمل العام ظلت مفتوحة للتيارات اليسارية والعلمانية، الأمر الذى مكنها من الانتشار فى أوساط النخب ومنظمات المجتمع المدنى، وكانت النتيجة ان احتفظت حركة النهضة بقوتها فى الشارع ووسط الجماهير، فى حين ظل نفوذ التيارات الأخرى قويا فى محيط النخب.
وترتب على ذلك أن حركة النهضة ظلت حريصة طول الوقت على إجراء الانتخابات والاحتكام إلى الصناديق، فى حين ظلت المنظمات الأخرى تماطل فى إجراء الانتخابات وتفضل حسم القضايا العالقة من خلال التفاوض الذى أطلقت عليه شرعية التوافق التى أريد لها أن تكون بديلا عن شرعية الصناديق.ونحن نرصد التفاصيل لا نستطيع أن نتجاهل هامش المرونة الواسع الذى تتمتع به قيادة حزب النهضة ممثلا فى السيد راشد الغنوشى، الذى ظلت عيناه مثبتة طول الوقت على وحدة الجماعة الوطنية وضرورة مواصلة مسيرة الثورة. وهذه المرونة دفعته إلى عدم التمسك بالإشارة فى الدستور إلى مرجعية الشريعة، كما دفعته إلى التنازل للقوى الأخرى عن الوزارات السيادية التى استحقتها النهضة بحكم أغلبيتها. بقدر ما دفعته إلى التفاعل الإيجابى مع خريطة الطريق التى قدمتها الرباعية، الأمر الذى حال دون انسداد آفاق الحوار السياسى.
(4)لم يهدأ الشارع التونسى منذ قامت الثورة فى عام 2011، وحين خرجت إليه 35 ألف تظاهرة خلال الثمانى عشر شهرا الأخيرة، فذلك يصور ذلك جانبا من الأجواء السائدة فى البلاد، ذلك أن النظام الحاكم هناك يواجه تحديات جمة من مصدرين أساسيين هما: اتحاد الشغل الناشط الأبرز فى جبهة الإنقاذ، الذى يهيمن عليه اليسار، ولم يتوقف عن مناكفة حكومة حزب النهضة منذ تشكلت، ومعه التجمعات العلمانية الأخرى. ورغم ما بين تلك القوى من شروخ وخلافات إلا أن ما يجمع بينها هو الاصطفاف فى مواجهة الائتلاف الحاكم الذى تقوده النهضة. التحدى الآخر مصدره المجموعات السلفية المتطرفة وعلى رأسها «أنصار الشريعة»، التى تشير القرائن إلى اتصالها بتنظيم القاعدة. وقد نسبت إليها بعض عمليات العنف التى وقعت وعلى رأسها اغتيال اثنين من قيادات اليسار المعارضين هذا العام هما: شكرى بلعيد ومحمد البراهمى. وتسبب قتل الأول فى إسقاط حكومة السيد حمادى الجبالى.
وبعد قتل الثانى فى شهر يوليو الماضى تجددت مظاهرات الغضب وارتفعت الأصوات داعية إلى إسقاط حكومة خلفه على العريض وإلى حل المجلس التأسيسى. وثمة إجماع بين المحللين على أن التغيير الذى حدث فى مصر فى 30 يونيو والثالث من يوليو أسهم فى رفع منسوب التعبةالمضادة للحكومة ورفع المطالبات التى وصلت إلى حد الدعوة إلى إقالة رئيس الجمهورية ذاته. إذا كانت مناكفات المعارضة وتهديدات السلفيين يشكلان أهم مصدر للاحتجاجات التى تخرج إلى الشارع التونسى، فإن التحديات الأخرى المتمثلة فى الانتهاء من إعداد الدستور أو مواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التى تفاقمت بعد الثورة، بسبب بطء حركة الاقتصاد والتراجع النسبى للسياحة، هذه كلها تستثير النخبة من ناحية وتؤجج غضب الشارع من ناحية ثانية. وتلك كلها تحديات لا مفاجأة فيها، فى مرحلة الانتقال من حكم الاستبداد والفساد إلى حلم إقامة نظام ديمقراطى جديد. من هذه الزاوية فالمشكلة لا تكون أساسا فى وجود التحديات، ولكنها تكمن فى كيفية التعامل معها. وفى أحد اللقاءات هناك قلت إنه طالما أن الجميع اختاروا أن يحتكموا رلى الحوار الذى يتجدد هذا الأسبوع. وطالما هناك بقية من عقل ورشد فى إدارة ذلك الحوار فلا خوف على تونس. وتلك رسالة ليس لتونس وحدها، ولكن لنا فى مصر أيضا
.المصدر جريدة الشروق