تعتذر «المصرى اليوم» للقراء والأستاذ الدكتور حسن نافعة عن وقوع خطأ من أحد الزملاء نتج عنه اختصار للمقال بسبب ظروف المساحة ودون العودة للكاتب الكبير، ولذلك نعيد نشر المقال كاملاً اليوم تمسكاً بالقواعد المهنية.
ونؤكد أننا نحرص كل الحرص على الكاتب الكبير د. حسن نافعة باعتباره صاحب قلم حر وأحد الأعمدة الأساسية فى جريدتنا منذ نشأتها.
وهذا نص المقال:
تربطنى بالسفير محمد رفاعة الطهطاوى، مدير ديوان رئيس الجمهورية السابق، علاقة صداقة حميمية تمتد لسنوات طويلة. فقد تعرفت عليه لأول مرة حين وجه إلى دعوة لإلقاء عدد من المحاضرات فى المعهد الدبلوماسى التابع لوزارة الخارجية، مثلما اعتاد بعض من سبقوه فى إدارة هذا المعهد. ثم راحت العلاقة تنمو وتترسخ، بعد أن جمعتنا مناسبات عدة داخل مصر وخارجها أتاحت لكل منا فرصة التعرف على الآخر إنسانيا وفكريا ثم أسريا.
فى حواراتى الدائمة معه، والتى كان من الطبيعى أن تتطرق لمناقشة الأوضاع السياسية، لم يخف الطهطاوى تعاطفه مع التيار الإسلامى بصفة عامة ومع جماعة الإخوان بصفة خاصة، لكننى أعتقد أنه لم ينخرط تنظيميا فى أى من فصائل هذا التيار حتى بعد تركه العمل بوزارة الخارجية. ورغم ما كان يظهر بيننا من تباين كبير أحيانا فى وجهات النظر، إلا أن الخلاف فى الرأى لم يفسد للود بيننا قضية، مما جعل للصداقة التى جمعتنا مذاقا خاصا وربما فريدا. واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن اندلعت ثورة ٢٥ يناير، فبدأ ينشط سياسيا بشكل لم أعتده منه من قبل، وازداد نشاطه مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية.
لم أتحمس شخصيا لأى من المرشحين فى البداية، لكننى قررت لاحقا إعلان تفضيلى للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، اعتقادا منى أنه ربما يكون الأقدر على تخفيف حدة استقطاب خطر كان قد بدأ يطفو على سطح الحياة السياسية فى مصر ويهدد استقرارها. أما صديقى فقد أعلن منذ اللحظة الأولى دعمه للدكتور مرسى، مما وضعنا على طرفى نقيض. فإسقاط أبو الفتوح كان الهدف الأول لجماعة الإخوان، وربما الدافع الأساسى وراء قرارها خوض الانتخابات، غير أن هذا التناقض فى المواقف السياسية لم يؤثر على متانة العلاقة الشخصية بيننا. لذا لم أتردد فى نشر رسالة بعث بها إلى تدعو لانتخاب مرسى، حيث كنت شديد الحرص على أن تظل الزاوية التى أطل منها على قراء «المصرى اليوم» منبرا للتفاعل الحر بين مختلف الآراء.
لم أندهش كثيرا حين وقع اختيار الدكتور مرسى على السفير الطهطاوى كرئيس للديوان، واعتبرته اختيارا موفقا. وحين اتصلت بصديقى مهنئا، دعانى إلى فنجان قهوة فى مكتبه، فلبيت دعوته مرحبا، ثم استمر التواصل بيننا عبر الهاتف، ولكن على فترات متباعدة، حرصا منى على وجود مسافة تفصلنى عن السلطة، أيا كانت، وعلى أن يظل الخط الفاصل بين العام والخاص قائما. ورغم مشاركتى فى عدة لقاءات دعا إليها الدكتور مرسى فى قصر الاتحادية فى بداية عهده، للتأكيد على حرصه على التواصل مع القوى الوطنية، إلا أننى لم أحاول الاتصال بصديقى هناك، باستثناء المرة الأخيرة التى أحسست خلالها أن الأمور لا تسير فى الاتجاه الصحيح، وأن عواصف كثيرة تتجمع فى الأفق، وأن الواجب يفرض على مصارحة صديقى بما يدور فى خاطرى. فى هذه المرة طلبت من أحد مساعدى الرئيس فى نهاية اللقاء أن يبلغ السفير طهطاوى أننى موجود فى القصر وأننى أرغب فى زيارته إن كان وقته يسمح، فجاء الرد فوريا ومرحبا.
استغرق اللقاء فى ذلك اليوم قرابة الساعتين حاولت خلاله التعبير عن عدم سعادتى بالطريقة التى تدار بها الأمور، وقلت بوضوح أننى أستشعر قدوم العاصفة بسبب عدم حرص القيادة السياسية على إصدار دستور بالتوافق. لم تكن وجهة نظرى هذه رجما بالغيب، وإنما مستمدة من خبرة مباشرة فى التعامل مع الجمعية التأسيسية كعضو فى لجنة الخبراء. أنصت صديقى باهتمام، ووعد بنقل وجهة نظرى للرئيس، لكن تطورات الأحداث بعد ذلك أوضحت أن كلامى ذهب أدراج الرياح، ولم يؤخذ على محمل الجد. فبعد أقل من أسبوعين أصدر الدكتور مرسى «إعلانا دستوريا» حصن به الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى، وكان بمثابة الشرارة التى أشعلت فتيل الأزمة التى حذرت من احتمالات تفجرها.
حين زحفت الجماهير بأعداد غفيرة إلى قصر الاتحادية، وهى فى حالة غضب عارم من رئيس منحه الإعلان الدستورى سلطة «الحاكم الإله» على النمط الفرعونى، وردت جماعة الإخوان بحشد مضاد لأنصارها، بدت مصر على وشك الدخول فى حرب أهلية. ولأننى لم أذق طعم النوم فى تلك الليلة، فقد خطر لى أن أتصل بالسفير الطهطاوى لأعبر له عن استيائى مما يجرى، ولأحذر من عواقبه المحتملة، وهو ما فعلته فى صباح اليوم التالى. اعتذرت له عن الاتصال فى مثل هذه الساعة المبكرة من صباح يوم جمعة، وذكرته بحوارنا السابق فى مكتبه، وعبرت له عن مخاوفى من عواقب ما يجرى. ولأن نبرة البادية فى صوتى تعلو حتى كادت تصل إلى مرتبة الصياح، فقد خشيت من أن تضع هذه المكالمة نهاية لصداقة حميمة صمدت لسنوات طويلة. غير أن صديقى الدبلوماسى كان أوسع صدرا وأكثر حكمة، واستطاع تهدئة ثورة غضبى، مؤكدا أن رسالتى وصلت بوضح، وأنه يتفهم دوافعها الوطنية، وسينقلها بحذافيرها للرئيس الذى سيقابل عددا من الشخصيات الذين طلبوا لقاءه ذكر أن من بينهم الأستاذ فهمى هويدى، فقرر الاتصال به أيضا حرصا على أن تصل رسالتى عبر أكثر من مصدر.
دارت الأيام، وجرى خلالها ما جرى، إلى أن ظهرت حركة «تمرد»، فأعلنت تأييدى لها منذ اللحظة الأولى دون تردد، وحين تحرك الجيش فى ٣ يوليو وأعلن الفريق أول عبد الفتاح السيسى خارطة طريق جديدة، أحسست أن عبئا ثقيلا أزيح عن كاهل مصر. غير أن هذا الشعور «السياسى» بالارتياح لإزاحة جماعة الإخوان من السلطة لم يستطع أن يخفى شعورا «إنسانيا» بالقلق على ما قد تحمله المرحلة التالية من تجاوزات، وهو ما دفعنى لكتابة عدد من الأعمدة حملت عناوين من قبيل: «ليس تفويضا بالقتل»، «أفرجوا عن مرسى أو حاكموه»..الخ. غير أن ذلك كله لم يكن كافيا لإزاحة صراع نفسى راح يجتاحنى بعد أن أصبح صديقى الحميم معتقلا وراء القضبان، ورحت أتساءل بينى وبين نفسى: كيف يمكن للصديق أن يتصرف فى مثل هذه الأحوال؟ هل أتجاهل الأمر وأدير له ظهرى درءًا للشبهات، كما يفعل الكثيرون فى مثل هذه الأحوال، أم أن للصداقة حقوقا يتعين الوفاء بها مهما كانت التضحيات؟ لم أتردد لحظة واحدة وقلت لنفسى: الصداقة تعلو فوق السياسة، فما الذى تستطيع السياسة أن تمنحه للإنسان إذا افقدته احترامه لنفسه؟.
بادرت بالاتصال هاتفيا باللواء محمد العصار، مساعد وزير الدفاع الذى أعرفه منذ أيام المجلس الاستشارى، وسألته إن كان بوسعه المساعدة فى استخراج تصريح شخصى لزيارة صديقى المعتقل. بعد حديث لم يخل من كلمات المجاملة، اعتذر الرجل بأدب، مؤكدا أن هذا موضوع يدخل فى اختصاص النائب العام وحده، وأن الجيش حريص على عدم التدخل فى شؤون القضاء. ولأننى لا أعرف النائب العام شخصيا، فقد هدانى تفكيرى إلى الاتصال بزميلى وصديقى، الدكتور جابر نصار، أستاذ القانون الدستورى البارز والمنتخب حديثا رئيسا لجامعة القاهرة. بدا الدكتور نصار وقتها متفائلا جدا ليس فقط بإمكانية الحصول على تصريح لى بزيارة صديقى المعتقل، وإنما أيضا بإمكانية إطلاق سراحه بسرعة. ولأن الدكتور نصار كان يقضى فى ذلك الوقت إجازة عيد الفطر خارج القاهرة، فقد وعد بالشروع فى معالجة الأمر عقب عودته مباشرة. وحين مرت أيام طويلة دون أن يتصل بى، أدركت أن الأمر أعقد حتى مما تصور هو. لم أستسلم، ورحت أحاول مع آخرين، غير أن كل جهودى راحت هباء.
لم أكن أتصور قط أن الحصول على تصريح بزيارة صديق معتقل سياسيا أصبح مستحيلا فى مصر الثورة. غير أن ما أثار استهجانى حقا هو استغراب البعض من إصرارى على استمرار المحاولة، وتحذيرى مما قد تنطوى عليه من مخاطر قد تهدد مستقبلى السياسى!. فقد فوجئت ذات مرة بزميل يهمس فى أذنى، بعد أن لمس منى إصرارا على متابعة هذا الموضوع: «أنصحك كصديق أن تكون أكثر حرصا هذه الأيام، فالعين عليك، وقد تثير تصرفاتك شبهات لا أساس لها فتحول دون حصولك على ما تستحق من مناصب رفيعة». هالنى ما سمعت واكتست ملامحى بتعبيرات تمنيت أن تكون قد أشعرت صاحبى بالخجل من نفسه!.
ذكرت بعض وسائل الإعلام منذ حوالى أسبوعين أن التحقيقات مع السفير محمد رفاعة الطهطاوى أثبتت براءته من التهمة الموجهة إليه بالمشاركة فى احتجاز وتعذيب مواطنين فى قصر الاتحادية، فتقرر إخلاء سبيله. اتصلت بأسرته على الفور للتأكد من صحة الخبر فقيل لى إنهم سمعوا بالخبر من وسائل الإعلام، وعلمت أنه لم يسمح لأحد بزيارته، ولا يعرفون حتى مكان احتجازه. لم تكد تمر أيام قليلة، وربما ساعات، على نشر هذا لخبر، حتى نقلت وسائل الإعلام خبرا آخر مفاده أنه تقرر حبس السفير الطهطاوى خمسة عشر يوما على ذمة التحقيق فى اتهامات جديدة تتعلق بالتخابر مع حماس!. أدركت على الفور أن الاستهانة بالقانون وبعقول الناس وصلت حد الخطر.
لم يبق فى نهاية هذه الخواطر الشخصية التى قدرت أنه ربما يكون فى البوح بها بعض النفع العام، وأعتذر للقارئ إن لم تكن قد حققت الفائدة المرجوة منها، سوى المطالبة بالإفراج الفورى ليس فقط عن السفير رفاعة الطهطاوى، وإنما عن كل من لم تتوافر دلائل جدية تكفى لتقديمه إلى المحاكمة. أما من تثبت جدية الاتهامات الموجهة إليهم فعلى النيابة العامة أن تسارع بتقديمهم فورا إلى محاكمة علنية وعادلة. فالإقدام على توجيه اتهامات جزافية لتبرير استمرار الاعتقال والحبس يعد انتهاكا جسيما لحقوق الإنسان وأطالب المجلس القومى بالتنديد به والتحرك لوضع حد له؟
فهل ما زال هذا المجلس قائما.. أم أصابته سكتة قلبية؟
المصدر جريدة المصري اليوم