قانون التظاهر الجديد فى مصر يثير قلقنا ولا يشجعنا على إحسان الظن بما يجرى. أولا بسبب السياق الذى صدر فيه، حيث يبدو حلقة فى مسلسل إجراءات تؤسس لدولة أخرى غير تلك التى بشرتنا بها وتطلعت إليها ثورة 25 يناير. وثانيا لمضمونه الذى بمقتضاه تتراجع الثورة كثيرا إلى الوراء على نحو يفقدها أحد أهم مكتسباتها.
إذ حين يصدر قانون التظاهر فى اعقاب تمديد فترة الحبس الاحتياطى الذى كان ينص قانون الإجراءات الجنائية على ألا يزيد على ثلاثة أشهر، الأمر الذى يعنى إطلاق مدة الحبس بحيث تصبح أداة ضغط فى أيدى الأجهزة الأمنية، فذلك يعنى أن ثمة تراجعا فى إحدى ضمانات العدالة. وحين يجرى تعديل قانون العقوبات للتوسع فى مفهوم الإرهاب ــ الذى هو فضفاض ومطاط فى الأساس ــ فذلك يفتح الباب لتوجيه التهمة لكل من تسول له نفسه أن يعارض.
وحين يقرر وزير العدل إجراء محاكمة 140 متهما فى قضية مسجد الفتح داخل سجن أبوزعبل، فى سابقة هى الأولى من نوعها، فذلك يعنى ان إجراءات وضمانات العدالة تتعرض للعبث والإهدار.وقل مثل ذلك عن إجراء التحقيقات فى أماكن الاعتقال، ومحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية وما يتردد عن منع المحامين من حضور التحقيقات مع المتهمين أو التواصل معهم، وما يشاع عن تعذيب لبعضهم وحرمان البعض الآخر من العلاج والدواء، مرورا بالتوسع فى الاعتقالات والملاحقات الأمنية وانتهاء بالتضييق على المنظمات الحقوقية التى تحاول تقصى حقائق الحوادث الجسيمة التى وقعت جراء فض الاعتصامات بالقوة، ما أدى إلى سقوط آلاف القتلى والجرحى.
فضلا عن الاعداد غير المعروفة للذين حرقت اجسامهم.حين نصبح فى مواجهة مثل هذه الأجواء التى تضعنا بإزاء مواقف ظننا أننا تجاوزناها بالثورة، وأنها كانت من سمات زمن غابر لن يعود، فمن حقنا أن نستفز ونستنفر وأن نتساءل بصوت عالٍ قائلين: إلى أين نحن ذاهبون؟
ليس سرا أن السؤال يتردد على ألسنة أعداد غير قليلة من الحقوقيين والناشطين المصريين طول الوقت، لكنى أزعم ان طرحه صار أكثر إلحاحا وأوجب بعد الاطلاع على نسخة قانون تنظيم التظاهر التى اعتمدها مجلس الوزراء وقدمها إلى رئيس الجمهورية للتوقيع. وقد قيل لنا إن المشروع له أصل تم إعداده فى عهد الرئيس السابق محمد مرسى، وذلك لا يشفع له من حيث المبدأ، ثم إننى فهمت من المستشار أحمد مكى وزير العدل السابق ان ثمة اختلافات جوهرية بين السابق واللاحق، وان الأخير حفل بالضوابط والقيود التى حاصرت حق التظاهر السلمى حتى أفرغته من مضمونه وحولته إلى قانون لتحريم التظاهر وليس لتنظيمه.من الملاحظات التى أبداها المستشار مكى، ان القانون الجديد ابتدع تصنيفات للتحركات الجماهيرية.
ففرق بين الاجتماع العام والموكب والمظاهرة، وحظر ممارسة تلك الانشطة كلها فى أماكن العبادة. فى حين ان المشروع السابق أجازها، واشترط فقط الا تتجاوز الحرم المخصص لتلك الأماكن. الأخطر من ذلك ان القانون الجديد حظر الاعتصام أو المبيت فى الأماكن العامة تحت أى سبب. كما عاقب بغرامة بين ألف وخمسة آلاف جنيه كل من قام بتنظيم اجتماع عام أو موكب أو مظاهرة دون اخطار الجهات المعنية بذلك، فى حين ان المشروع السابق خلا من العقاب فى هذه الحالة، الامر الذى فهم منه ان الأصل هو الاباحة.فى القانون الجديد نص يبيح للمحافظ أن يحدد اماكن للمظاهرات والمواكب وأعطاه الحق فى أن يبين الحدود القصوى لأعداد المجتمعين، وحظر عليهم فى هذه الحالة التحرك خارج نطاق تلك الأماكن، فى حين أن القانون السابق كان خلوا من فكرة تحديد أعداد المتظاهرين.
بل إنه نص على جواز تحديد أماكن للتظاهر دون إخطار.فى القانون ايضا تحديد لحرم أمام الاماكن العامة يجوز التظاهر فيه، حده الأدنى مائة متر والأقصى ثلاثمائة، وهو ما يمنع التظاهر عمليا امام العديد من الجهات التى لا تتوافر فيها مثل هذه المساحات. فى حين أن المشروع السابق كان يسمح بالتظاهر فى منطقة الحرم دون حد ادنى بحيث يبدأ من متر وحتى 300 متر.انتقدت المنظمات الحقوقية المصرية المشروع الذى اعد فى عهد الدكتور مرسى، ولم يقدر له ان يرى النور رغم ارساله إلى مجلس الشورى لمناقشته.
اما المشروع الجديد الذى وضع قيودا شديدة على التظاهر ومنع الاعتصام فقد تعذر إيقافه، وإنما تم تمريره أمام مجلس الوزراء بفضل الضغوط الأمنية التى مورست وألغت أى تأثير للقوى الليبرالية التى سلمت بالامر. الا ان ذلك لم يغير شيئا من المخاوف المثارة وانما جدد السؤال القلق حول المسار والمآلات التى تنتظر البلد فى ظل استمرار تلك الخطى، الامر الذى يقرب إلى الأذهان جمهورية الخوف، ويجعل من الجمهورية المدنية الديمقراطية حلما بقى عالقا فى الفضاء، ولم يقدر له ان ينزل على الأرض بعد.