يُحكى أن الفرعون «خوفو» حين جاءته فكرة بناء الهرم الأكبر، قرر أن يجمع من كل أنحاء مصر كل المهندسين والبنّائين والخبراء والمخططين والعمال والصنايعية والفواعلية والنجارين، وكل من يقدر على العمل من رجال وستات وشباب مصر، كى يشاركوا كلهم فى بناء الهرم، ولا يبقى صانع ولا مهندس ولا بنّاء إلا وهو يعمل فى بناء هذا الكيان الضخم الهائل الذى يخلد ذكرى الفرعون العظيم. وقد قيل كثير فى أن المصريين بَنَوْا هذا الهرم بالسُّخرة وبالقمع والقهر، ولم يأخذوا مقابل عرقهم وجهدهم مالًا ولا أجرة. لكن آخرين يعتقدون أن شعب مصر ما كان ممكنًا أبدًا أن يبنى أو يشارك فى بناء هذا العمل الهائل بالسُّخرة والجَبر، خصوصا أنه يُفصح عن عبقرية خالدة لا يتمتع بها ولا يقدمها إلا أحرار أولاد أحرار.
الفرعون بحكمته الثاقبة ورؤيته النابهة أراد أن يشجع شعبه الذى جمعه ليبنى له الهرم ويثير فيه حماسة ورغبة فى العمل ويحذره من الطَّلْسَأة والكرْوَتة والغياب ويشغله عن عذاب الشغل، فجمع من أنحاء مصر كل الفنانين الموسيقيين والأرتيست والآلاتية وقارعى الطبول وضاربى الدفوف ونافخى الساكس، ولم يترك واحدًا فى أى مكان من شوارع المَغنى وأحياء المراقص وحانات المدن والقرى إلا وجاء به، وتجمعوا كفرقة موسيقية هائلة تعزف الأغانى والأناشيد، ويتعالى الغناء والطبل فى عز الجهد الرهيب والمشقة الشديدة، واستمر العمل فى بناء الهرم سنوات، حتى بانَ وعلا وارتفع شامخا فى سماء الجيزة، لكن الخبر المؤسف أنه بعد كل هذا العمل المضنى والمؤلم مات كثيرون من العمال العظام الذين بَنَوْا الهرم، حتى قيل إن ثلث الشعب المصرى من العاملين قد ماتوا من التعب.
ومرت فترة وجاء الفرعون «خفرع» فتفرعَنَ وقرر بناء هرم هو الآخر، إشمعنى هوّه يعنى، فنادى فى أنحاء البلاد كافة، وجمع من تبقى من الشعب المصرى الذى مات ثلثُه بسبب هرم «خوفو» ليبدؤوا بناء هرم «خفرع»، وجاءت فرقة الموسيقيين والآلاتية بكامل رجالها ونسائها وعِددها ليعزفوا ويطبلوا للعاملين فى بناء الهرم، وانقسم الشعب المصرى، فريق يعمل وفريق يطبل.. وانتهى العمل بعد فترة، لكن بارتفاع أقل وحجم أصغر من هرم «خوفو»، ويرجع هذا بطبيعة الحال إلى أن ثلث العمال قد ماتوا وصعدت أرواحهم إلى بارئها من أثر بناء الهرم الأول الأكبر، لكن عموما بعد عمل العمال وعزف الفنانين وتطبيل الآلاتية والمطبلاتية اكتمل بناء الهرم حتى رضى «خفرع»، الخبر المؤسف أن ثلث المصريين قد ماتوا من التعب والغُلب كذلك بعد اكتمال هرم «خفرع»، ولم يبق سوى ثلث وحيد عادوا إلى بيوتهم محملين بالتعب والألم وعناء الهرم، وعادت فرقة الآلاتية للمراقص والحانات تبدأ مسيرتها فى الزَّمْر والجعر والتطبيل حتى جاء الفرعون الملك «منقرع» وقرر أنه «إشمعنى هوّه» ونادى فى البلاد ليجمع الثلث الأخير من عمال وصنايعية وخبراء ومخططى ومهندسى ونجارى وفواعلية مصر، كى يبنوا هرمه الخاص.
وقطعًا استدعى فرقة المزيكا، وقد مات الفنانون أيضا من كثرة التعب ومشقة الإخلاص فى الفن، ولم يبق منهم إلا المطبلاتية، فجاؤوا فورًا للطبل والزمر «ومن هنا جاء أصل كلمة نحتاية فى وصل عمل الآلاتى فى أى حفلة» وتحلقت فرقة المطبلاتية حول بناة الهرم ليعزفوا ويطبلوا، وقد انتهى بناء الهرم بعد مشقة وألم وتعب، لكنه جاء أصغر من سابقيه، نظرًا لقلة عدد العمال وموت أصحاب الصنعة وخبراء البناء، ثم لما اطمأن الفرعون على هرمه كان الثلث الثالث للمصريين من العمال والمهندسين والنجارين والفواعلية والصنايعية والبنّائين والخبراء والعلماء والمخططين والفنانين، قد ماتوا جميعا، ولم يبقَ من الشعب المصرى باقيًا حيًّا يعيش ويتزوج ويلد سوى المطبلاتية!
فهمت قصدى.. أظن.
المصدر جريدة التحرير