رنَّ الجرس، وقبل أن أفتح الباب للآخر دخل جمال عبد الناصر وكله عَرَق ويلتقط ءنفاسه بصعوبة:
– اقفل الباب.
– فيه إيه يا ريس؟
أغلقت الباب وقبل أن يجلس على كنبة الليفينج قال:
– عبد الحكيم بيجرى ورايا.
– وهو المشير بيجرى وراك ليه يا ريس؟
التفت ناصر فرأى الطعام.
– إيه ده انت هتتعشى؟
– مش عشا قوى يعنى جبنة وطماطم وخيار وزبادى وعيش..
قبل أن أنهى القائمة كان قد شق طريقه فى قلب مكعب الجبنة.
– عندك شاى؟
– عندى يا ريس ونعناع بلدى كمان هاعملّك خمسينة.. سكرك إيه؟
– ما انت عارف من غير سكر خالص.
– ماشى.
– ولّا أقولك اعمل لى قهوة وحطّ لى معلقة سكر أنا معايا الدوا باين.. ثانية كده..
وضع يده فى جيبه فأخرج أربع شرائط أدوية مختلفة أخذ يتفحصها.
– ده بتاع الذبحة وده بتاع الضغط وده بتاع الشرايين وده… تمام حط لى معلقة لقيته.
بينما أقف فى المطبخ كنت أحاول استجوابه من بعيد.
– ماقلتليش المشير بيجرى وراك ليه يا ريس؟
– أصلى ضربته على قفاه قدام العساكر بتوعه.
– طب ده كلام؟
– أصله غاظنى.. باقولّه إحنا اتهرسنا فى اليمن بسببك.. راح قايلّى انت اللى عايز تعمل زعيم على قفانا.. رُحْت استنيته وهو واقف مع العساكر ورحت ضاربه على قفاه وخدت ديلى فى سنانى جرى.. ماكنتش عارف أروح فين لحد ما لقتنى بالصدفة داخل عَ القصر العينى قلت أستخبى عندك.
رنَّ جرس الباب مرة أخرى.. كان صوت الجرس مختلطا بطَرْق عنيف على خشب الباب.
سمعت ناصر يقف فى مكانه.
– انت مستنّى حد؟
– لا يا ريس.. اقعد هاشوف مين.
قبل أن أفتح الباب لنهايته وجدت عبد الحكيم عامر يدفعه بركبته ويدخل وهو ينهج وقد ابتلّت ملابسه تمامًا بالعرق.. قال لى وهو يلتقط أنفاسه.
– ناصر عندك صح؟
– طب قول سلامو عليكو الأول..
– مراتك هنا؟
– لأ.
– طب عن إذنك.
دَفَعَنى عبد الحكيم عامر ليدخل، وأعجبنى أنه استأذن قبل أن يدخل حرم البيت مندفعا، جعلتنى هذه الحركة أتعاطف معه الحقيقة، ماجتش من ناصر، عامر صعيدى ويعرف الأصول، ناصر صعيدى أيضا لكن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
دخل حكيم فوجد ناصر واقفا بحذائه فوق كنبة الليفينج يحمل حبات الطماطم ويهدد عامر بأنه هيرميها عليه.
– عامر أنا كنت باهزّر.
– بتهزر إيه يا (…) قدام العساكر ؟ انت فاكرنا قاعدين فى مدينة الطلبة دى وحدة جيش.
– ما انت أحرجتنى قدامهم يا معلم وقلت لى عايز تعمل زعيم.
– مش انت اللى عايز تلبسنى ليلة اليمن؟ إيه هو أنا هافضل أشيل (…) كده كتير.
كان لا بد من التدخل.
– صلّوا عَ النبى يا جماعة الساعة واحدة بالليل والجيران نايمين.
التفتَ عامر ناحيتى وكان صادقا.
– بس يا (… ) انت التانى.
بينما عامر يوجِّه كلامه إلىَّ أخرج ناصر من جيب جاكيت البدلة صناعة غزل المحلة صاروخا من بتوع أطفال العيد ثم أشعله وألقاه فى قفا عامر فانفجر.. جُنّ جنون عامر بينما ناصر مستلقٍ على الحائط يكاد يموت من الضحك.
هجم عامر عليه وطرحه من فوق الكنبة وصعد فوقه، وانهال عامر قرصًا فى لباليب ناصر بعنف شديد بينما ناصر يترجَّاه:
عامر عامر.. أنا عندى جلطة.. عندى جلطة ياله يخرب بيتك.
جلطة إيه؟ هتستهبل ده انت جاى جرى من منشية البكرى.
عاد الطَّرق من جديد على الباب، فتحت هذه المرة فوجدتُ جيرانى قد تجمعوا بسبب ضوضاء ما بعد منتصف الليل.
أخذتُ أنقل النظر بينهم وبين عامر وناصر وهما مشتبكان، عامر منفعل ومستمر فى التقريص، بينما ناصر غارق فى خليط من الوجع والضحك بطريقة مزعجة.
هنا طفح الكيل.
أشرت لهما بأصبعى ناحية الخارج قائلا:
– آدى آخرة اللى يقرا كتاب تاريخ تانى قبل ما ينام… برَّه.
■ ■ ■
استيقظتُ على زنة سخيفة فى أذنى بسبب نزلة البرد وبسبب الصاروخ الذى فرقعه ناصر فى الحلم، وكان تحت رأسى كتاب «مذكرات طبيب عبد الناصر للدكتور الصاوى حبيب» مفتوحًا على الصفحة التى يروى فيها حالة عبد الناصر الصحية بعد انتحار المشير، كان ناصر يقول إنه يرى عامر بعد رحيله فى كل شىء حوله حتى فى فنجان القهوة.
المصدر جريدة التحرير