تمتاز القصص الخيالية بأنها تنتهى نهايات سعيدة مرضية لجميع الاشخاص. ففى النهاية نقول لأطفالنا «توتة توتة، فرغت الحدوتة» و«عاشوا فى تبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات».
هكذا تنتهى كل القصص السعيدة من أول الجمال النائم إلى سنو وايت والاقزام السبعة.
لكن الحقيقة ان معظم قصص الاطفال كتبها مؤلفوها بطرق أكثر واقعية وسوداوية. فالصراع بين الخير والشر فى هذه القصص أعمق بكثير من مجرد قبلة حالمة على شفاه أميرة تستيقظ بعدها من نومها المسحور وأكثر تعقيدا من سبعة أقزام يتراقصون حول سنو وايت وعريسها فى مشهد النهاية.
لكن على مدى العقود الماضية تمت إعادة إنتاج هذه القصص لتكون أكثر جمالا وسعادة وأقل تعقيدا ليتقبلها الأطفال وآباؤهم.
لا يحدث ذلك فى قصص الاطفال فقط ولكن يحدث أيضا حين تسترجع الأمم تاريخها. أو بمعنى أدق إعادة كتابة تاريخها. فإذا كانت هذه الأمة واثقة من نفسها ولا تجد حرجا فى الاعتراف بأخطاء الماضى تجد أن تعاملها مع التاريخ تعامل «شيك جدا». فالأخطاء موجودة امامك ولا شىء يمكن اعتباره مقدسا. بل تشجع هذه الدول طلبتها فى المدارس على كتابة آرائهم ونقدهم فى «الثوابت» التاريخية لهذه الامة.
«ثوابت»؟ انت قلت ثوابت؟
انا اسف فكلمة ثوابت وخاصة حين تقرن بأحداث التاريخ موجودة فقط فى عالمنا العربى والإسلامى السعيد. فالتاريخ عندنا ملفوف فى كفن ومقفول عليه فى تابوت ومدفون فى الارض تحت طن من التراب. والويل كل الويل لمن يحاول اعادة النظر أو اعادة القراءة فى هذه الثوابت.
المؤرخ الدكتور يوسف زيدان تحمل هجوما شديدا ليس فقط بسبب رواية عزازيل ولكن لأنه حاول ان يتخذ المنهج العلمى كوسيلة لإعادة قراءة تاريخنا وذلك بحكم عمله كمؤسس لقسم ومتحف الوثائق والمخطوطات فى مكتبة الاسكندرية.
وقد رصد الدكتور زيدان فى كتابه «متاهات الوهم» العديد من المغالطات التاريخية منها مثلا هذه القصة العظيمة النى درسناها فى المدرسة عن ان مصر حمت العالم من غزو التتار وانها اوقفت الجيوش الجرارة التى اجتاحت اسيا الصغرى وبغداد والشام. ولكن ما لا نعرفه ان الجيش الاصلى بقيادة هولاكو الذى يقدر عدده بمائة وعشرين الف جندى بعد ان دمر بغداد عاد إلى بلاد المغول بسبب صراعات مع قبائل منافسة وحيث انهزم هولاكو هناك على يد «بركة خان». وان ما تبقى من المغول لمواجهة الجيش المصرى فى عين جالوت هو جزء صغير لا يزيد على ثمانية عشر الف جندى.
ولكن لا بأس، يمكنك ان تكذب الوثائق والمؤرخين ويوسف زيدان وتصدق فيلم «وا إسلاماه».
من الثوابت التى تربينا عليها ايضا هو جمال وقوة وعظمة الخلافة الإسلامية.
و الحقيقة ان لا احد يستطيع ان ينكر أثر الدولة الإسلامية فى التاريخ وما اضافته للتراث البشرى.
ولكن ما يستفزك ان يأتى من احترفوا التكفير والتضييق على خلق الله ليغسلوا عقول الشباب، فيحاولون ان يقنعوهم بأن هوان الأمة الإسلامية الآن سببها أننا ابتعدنا عن الدين، وان الحل لاستعادة العزة والكرامة و«أستاذية العالم» فى أن نحيى الخلافة الإسلامية لنتبوأ مكاننا بين الامم.
الغريب ان اصحاب هذه الدعاوى لا يتفاخرون امامك فقط بالامبراطورية المترامية الاطراف التى قامت عليها الخلافة الإسلامية ولكنهم ايضا يذكرونك بمآثر علماء العرب والمسلمين ويصرون على ربط الإسلام كدين ودولة بالتقدم العلمى فى ذلك الوقت، لذلك يجب ان نحيى الخلافة لنستطيع ان ننافس الغرب الفاجر البعيد عن الدين وتوتة توتة دى قصة الخلافة.
لكن هذه ليست قصة لسنو وايت وزواجها السعيد، هذه قصة سنو وايت بعد ما اتجوزت وخلفت ورفعت على جوزها دعوة نفقة وردحوا لبعض فى المحاكم.
فالقشرة الخارجية البراقة للخلافة الإسلامية كراعٍ للعلوم والفنون (زى مبارك كده) هى قشرة هشة وكاذبة.
فمعظم العلماء المسلمين تم تكفيرهم واصدار فتاوى بحقهم بإخراجهم من الملة.
ربما نتذكر مشهد نور الشريف وهو يلقى بتحدٍ بأحد كتبه فى النار مجسدا ابن رشد الذى اضطهد لأفكاره الفلسفية وذلك فى فيلم المصير، لكن قول يا سيدى انه فيلسوف وعايز الحرق لافكاره الفلسفية التى يمكن ان يعتبرها البعض معادية للدين، لكن ماذا عن ابن سينا وهو العلامة فى الطب؟ والخوارزمى، وجابر ابن حيان وابن المقفع والجاحظ والرازى والكندى، وابن الهيثم وابو العلاء المعرى حتى ابن بطوطة. كل هؤلاء كانوا علماء نوابغ فى الطب والهندسة والرياضة والشعر والادب وغيرها من مجالات الفنون.
اليس هؤلاء من نفاخر بهم الامم ونقول انهم نتاج الحضارة الإسلامية ولذلك فيجب ان نبدأ الآن فى تطبيق الشريعة لنعيد مجد الخلافة؟
ولكنهم لا يقولون لك ان كل هؤلاء تم تكفيرهم وحبسهم بل وقتل بعضهم باستخدام نفس الحل السحرى «تطبيق الشريعة» وتحت ظل الخلافة.
هناك قصص رهيبة متعلقة بهؤلاء العلماء لا يتسع مقال واحد لسردها، ولكن وقائع التكفير واتهامات الزندقة بل التعذيب والقتل تعطيك صورة مختلفة تماما عن نهاية «التبات والنبات المتوقعة فى النهاية».
حتى علماء الدين لم يسلموا من «سماحة» الخلافة ولا حتى من بعضهم. فاتهامات اتباع ابن حنبل لاتباع ابو حنيفة بالكفر والزندقة تتسع لها المجلدات. وتعذيب ابن حنبل نفسه على يد المأمون ثم المعتصم (بتاع وا معتصماه) هى تفاصيل لا يتوقف عندها كثيرا المنادون بعودة الخلافة.
الخلافة الإسلامية لها مكانتها فى التاريخ، ولا يستطيع احد ان يحط من قدرها ولا من اسهاماتها فى تاريخ الانسانية. ولكن ان يأتى بعض الناس ويربط بين الإسلام كرسالة روحية وبين الخلافة كإمبراطورية برجماتية فيها ما فيها من اخطاء بشرية، ثم يأتى اليك بكل ثقة ليقول ان الشريعة والخلافة هى الحل، بل ويستخدم نفس العلماء الذين تعذبوا فى ظلهم كدليل على صحة حجتهم فهذا هو التدليس بعينه.
ان الذاكرة الانتقائية للإسلاميين تضعنى دائما فى حيرة. فهم يروجون لدخول الدين فى السياسة ويتجاهلون المآسى التى نتجت عن ذلك. فأصحاب رسول الله تقاتلوا بل وقتلوا اهل بيته وهم كانوا اقرب الناس إلى مصدر النبوة، فلم ينفعهم علمهم ولا ورعهم. واكثر الناس صلاة وسجودا كانوا خوارج فتنوا الناس فى دينهم وقتلوا على بن ابى طالب ووقف على رأسه مكبرا عبدالرحمن ابن الملجم وهو يتفاخر بـ«إن الحكم إلا لله».
مثلما هناك قصص نفخر بها فى تراثنا الإسلامى كحضارة أثرت فى العالم، هناك ايضا العديد من القصص والحوادث التى لا نستطيع ان نتجاهلها والتى تدل على بعد الكثير من الخلفاء عن جوهر الدين وعلى ان اكثر الناس ضررا بمبادئ الدين كانوا هم أكثرهم ورعا. وان اكثر من يتظاهر بالورع وتمسكه بالدين الآن ينادى برجوع زمن كفر العلماء واخراجهم من الملة ولكنه يتجاهل ذلك. ويقوم هؤلاء بمحاولة بيع قصة خيالية مليئة بالتبات والنبات ليقنعك ان ازدهار العلوم جاء تحت غطاء الخلفاء والمشايخ فى حين ان كل ما يفكرون فيه هو انتاج نفس النظام التكفيرى لتكون انت ضحيته فى النهاية.
التاريخ ليس مقدسا وأحداثه ملك لنا جميعا، وجزء كبير من أسباب غيبوبة هذه الامة هى عدم قدرة ابنائها على نقد التاريخ وتحليله والتعلم من اخطائنا فى السابق ولذلك فنحن امة تنفرد بتكرار نفس أخطائها ثم نندهش لماذا نقبع فى قاع التاريخ والجغرافيا والحاضر والمستقبل.
أعلم انه سيخرج بعض المتشنجين الذين سيعتبرون هذا الكلام كفرا «بالثوابت» ولكننى اعذرهم هذه المرة، فهم أنفسهم من يعتبرون التفكير نقمة والتساؤل ذنبا عظيما. هم يريدون فقط قصة سعيدة ونظيفة بلا تعقيدات وتنتهى بهذه الكلمات السحرية: «توتة توتة وفرغت الحدوتة».