معتز بالله عبد الفتاح يكتب|دساتير تموت فى المهد وأخرى فى سن المراهقة
حين يدرس طلاب النظم السياسة المقارنة، وتحديداً المتخصصين فى «تصميم المؤسسات والتحول الديمقراطى»، أن متوسط عمر الدساتير فى العالم يقترب من حوالى 17 عاماً، فهم يكتشفون مع هذا العمر القصير نسبياً للدساتير العديد من الحقائق التى أثبتتها الدراسات المقارنة.
أولاً، الدساتير الحديثة لم تعد أداة للاستقرار إلا إذا ارتبطت بشروط معينة معظمها ليس له علاقة بالدستور ذاته وإنما له علاقة بالحكمة فى تفسير وتطبيق الدستور والاستفادة منه. ورغماً عن أن دستور 1997 فى تايلاند كان يعتبر من أفضل الدساتير التى كتبت فى آخر 25 سنة من ناحية البنية القانونية، لكنه مات بهدوء شديد فى عمر التاسعة بعد انقلاب عسكرى غير دموى نتيجة سوء ممارسات النخبة الحاكمة المنتخبة.
ثانياً، الدساتير لم تعد أدوات تنظيم للحقوق والحريات والالتزامات والواجبات فقط وإنما هى أداة «تنسيق» بين القوى السياسية المختلفة التى ينبغى أن تتفق على أن قواعد الدستور تمثل الحد الأدنى الذى يمكن التوافق عليه من قواعد «اللعبة الديمقراطية». إذن الدساتير هى مجموعة من القواعد التى لا يجوز الاتفاق على مخالفتها ولا ينبغى التسامح مع تجاهلها، وإلا انهارت قيمة الدستور ثم ينهار الدستور نفسه. ولهذا نجد أن دولة مثل هايتى أصبحت تصنع دستوراً كل 3 سنوات بسبب الانقلابات العسكرية.
ثالثاً، الدساتير ليست بديلاً عن برامج الأحزاب أو السياسة العامة للدولة؛ مثلما أن الفيفا لا تضع قواعد يلتزم بها كل فريق عند التشكيل أو توزيع اللاعبين على أرض الملعب. وإنما كل فريق يختار طريقة لعبه وتشكيله (4-4-2) أو (5-3-2) وهكذا مع اللالتزام بأن يكون عدد اللاعبين أحد عشر أحدهم فقط يسمح له بحراسة المرمى.
رابعاً، القضية ليست فى الدستور المكتوب ولكن القضية فى العقلية الدستورية (Constitutionalism) أى أن يحترم الدستور الجميع. دولة مثل الدومينيكان شهدت 29 دستوراً منذ 1844 وطوال تلك الفترة كانت دائماً دولة تسلطية.
خامساً، الدستور لا ينطق بأحكامه مهما كان تفصيلاً وإنما تنطق به المحاكم فى حدود ما خولها الدستور نفسه من مبدأ مراجعة مدى دستورية القوانين والقرارات التنفيذية التى تصدر عن الحكومة والبرلمان. والبعض يقول لا بد أن يكون الدستور شديد التفصيل من أجل أن يمتنع على السلطات أن تؤوله، وهو حلم قديم فشل فيه الجميع منذ عهد سيسرو والفقهاء القانونيين الرومان. ويكفى أن أعطى مثلاً من لغتنا العربية الدارجة. ما هى المعانى المختلفة التى يمكن أن نستنتجها من العبارة التالية: أحمد وحسن أخيراً تكلما؟ هل أحمد تحدث مع حسن؟ أم أن أحمد وحسن توقفا عن الحديث فى موضوع ما وأخيراً تحدثا فيه؟ وبشأن الزمن: هل هما تحدثا أخيراً بمعنى «بعد طلوع الروح» أم أخيراً بمعنى أنهما تحدثا خلال الفترة الأخيرة؟
من الذى سيفصل فى أى معنى من المعانى الكامنة والمحتملة أمام الألفاظ الواضحة هذه؟ ولهذا كان دائماً أهمية أن يأتى الدستور ومعه محكمة عليا تنطق به، وهو ما قال به جون مارشال، أهم رئيس للمحكمة العليا فى أمريكا: «We must never forget that it is a constitution we are expounding.
أى: إن ما نقول به هو الدستور. أى ما تصل إليه المحكمة الدستورية من أحكام هو الدستور، ولهذا أنشأ الدستور هذه المحكمة حتى لا يتحول الدستور نفسه إلى أداة نزاع وليس أداة لحل النزاعات.
إحدى الدراسات من جامعة شيكاغو الأمريكية تشير بوضوح إلى أنه منذ 1789 وحتى الآن، كان متوسط عمر الدستور 17 سنة، وأن نصف الدساتير لم تتخط العام الثامن عشر، وأن حوالى 7 بالمائة منها ماتت فى المهد قبل أن تصل إلى العام الثانى، وأن الدساتير التى لم تزل حية، مع تعديلاتها منذ 1789 حتى الآن، لا يتخطى 19 بالمائة منها. وأغلب الدول التى تموت دساتيرها فى المهد هى دول أمريكا اللاتينية والدول الأفريقية، حيث المتوسط حوالى 10 سنوات فى أفريقيا و12 سنة ونصف السنة تقريباً فى أمريكا اللاتينية. أما دساتير أوروبا الغربية وآسيا فهى أكثر قدرة على البقاء، حوالى 32 سنة فى حالة الدساتير الأوروبية، و19 سنة فى حالة الدساتير الآسيوية.
أهم خصائص الدساتير التى تموت هى أنها أولاً تفشل فى أن تكون جامعة وشاملة لحقوق كل أطياف المجتمع (inclusive).
ثانياً، كما أن الدساتير التى يتشكك الناس فى طريقة صناعتها أو نتائج الاستفتاء عليها عادة لا تعيش طويلاً.
ثالثاً، الدساتير الجامدة أى غير قابلة للتكيف والتعديل (adaptability) بسهولة نسبية عادة ما تعيش أقل من الدساتير الأكثر مرونة والتى يمكن تعديلها بإجراءات أقل.
رابعاً، الدول التى توجد فيها انقسامات حادة سواء بسبب الخلافات العرقية أو القبلية أو الدينية أو الأيديولوجية عادة ما لا تنجح دساتيرها فى الاستمرار طويلاً لأن الدستور نفسه يصبح ساحة للصراعات السياسية، وتتحول المسألة إلى أن من يكتب الدستور هو المنتصر، ولا يكون الدستور أداة لحسم الصراع ولكن لتأجيجه.
خامساً، الدساتير التى تكتب فى أوقات صراعات وأزمات وانقسامات حادة عادة لا تعيش طويلاً بغض النظر عن جودة الدستور.
تمر الأيام ليسأل الإنسان ما الذى جناه أولئك الذين رفضوا تعديلات دستور 1971 وفزعوا وأفزعونا حتى لا يكون دستور الفترة الانتقالية رافعين شعار «الدستور أولاً»؟ فى حين كانت وجهة نظر كاتب هذه السطور: ما هو دستور 1971 أولاً ولنستفد مما فيه من مميزات ونعالج ما فيه من مشاكل مثلما فعلت أندونيسيا وماليزيا وكوريا الجنوبية ولا ندخل فى دوامة فتح بطن البلد. الدول التى تكتب دساتير جديدة تماماً إما كانت دولاً تحت الاحتلال أو دولاً انفصلت أو دولاً لديها نخب منقسمة وضيقة الأفق مثل حالتنا.
تمر الأيام ليسأل الإنسان ما الذى جناه أولئك الذين رفضوا أن يكون دستورنا مرحلياً انتقالياً مؤقتاً لفترة ما (ولتكن 10 سنوات أو أقل) حتى يهدأ الغبار وتستقر الأوضاع؟
يا الله نج مصر مننا، يا رب لا تجعل نهايتها على أيدينا، يا رب نحن غير قادرين على أن نحملها للأمام، فعلى الأقل ساعدنا أن نسلمها لمن يأتى وراءنا وهى قطعة واحدة متماسكة، يا رب، أنقذ بلدنا وأولادنا من سوء تفكيرنا وسوء سلوكنا. آمين.