تلقيت هذه الرسالة الحزينة من عدد من طلاب كلية الطب بجامعة الأزهر، لن أذكر أسماءهم ولا الفرقة الدراسية التى يدرسون بها، لكى لا تتم معاقبتهم فى زمن أصبح العقاب الجماعى فيه رياضتنا الوطنية المفضلة. تقول الرسالة: «خرج طلاب بجامعة الأزهر ينادون بالحرية ويهتفون ضد قمع الأجهزة الأمنية الذى طال الحرم الجامعى، يصرخون من الظلم الذى طال زملاءهم فى المحاكمات الهزلية، يرفضون قرار حل الأنشطة الطلابية، فكانت النتيجة اقتحام المدينة الجامعية لطلاب طب الأزهر وسقوط شهيد من الطلاب لأول مرة داخل الحرم الجامعى واعتقال العشرات وإصابة الكثير من الطلاب بالخرطوش واختناقات الغاز، واتهام الطلاب بالإرهاب لأنهم رفضوا الخنوع للظلم.
فقدت كلية طب الأزهر بنين القاهرة فى تلك الأحداث الشهيد عبدالغنى محمد حمودة وتم اعتقال كل من عبدالرحمن محمد اليمانى وشاكر حامد شاكر وخالد فتحى عاشور لينضموا إلى زميلهم عمرو جمال المعتقل فى أحداث سابقة. فماذا فعل عبدالغنى حتى تطلق عليه أعيرة الخرطوش وهو مصاب باختناق الغاز وممدد على الأرض؟، ماذا فعل كى يتم منع سيارة الإسعاف من نقله إلى المستشفى حتى تفيض روحه إلى بارئها؟، ماذا فعل زملاؤنا المعتقلين حتى تُسلب حريتهم ويُحرموا من اختبارات السنة النهائية فى كلية الطب؟، أين هى مكتسبات الثورة التى دفعنا ثمنها دماء شبابنا
الذين أخطأوا حين ظنوا أنهم سينهون أخيرا معاناتهم الدراسية ويتخرجون لتكتمل فرحة أهلهم بهم؛ الفرحة التى انتظروها طويلا، الفرحة التى انقلبت فجأة إلى مأتم فى قرية ديبى مسقط رأس الشهيد عبدالغنى الذى بدلا من أن يستقبله والده فى ثياب تخرجه استقبله فى كفن وفاته.
اليأس خيانة، هكذا تعلمنا وهكذا تعودنا أن نصبر أنفسنا، ولكن السؤال يفرض نفسه علينا الآن: كيف نتحدث عن الأمل عندما يصل القتل والاعتقال والتنكيل إلى وسط حرم المدينة الجامعية وعندما تصل طلقات الخرطوش وقنابل الغاز إلى داخل الغرف، أليس ذلك إعلانا لوفاة كرامة الطالب الأزهرى، وهل يلومنا أحد لو أعلنا عن فقدنا لأى شعور بالأمل أو الرغبة فى التخرج ورفض إكمال الدراسة وأداء الامتحانات دون أن تخيفنا أى تهديدات، لأنه لا يوجد بعد القتل تهديد».
لا أظن عزيزى القارئ أنك بعد أن قرأت هذه الرسالة الغاضبة بحاجة إلى تذكيرك بأنك لم تسمع بالتأكيد عن هذه الوقائع المؤسفة فى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة والمشمومة، والتى كانت حتى مطلع شهر يوليو تحتفى بالتظاهر الطلابى وتشجع التمرد وتحض على الاعتصامات الطلابية وتغض الطرف عن أى تصرف منفعل منفلت يقوم به الطلاب وتلعن سنسفيل كل من يمد يده أو سلاحه على طالب متظاهر بغض النظر عن التفاصيل، لكنها الآن وبقدرة قادر أصبحت تلعن التظاهر وتجرم التمرد وتخون الاعتصامات الطلابية ولا ترى إلا ما يقوم به الطلاب من انفلات بينما لا ترى على الإطلاق كل من يمدون أيديهم وأسلحتهم لقتل وقمع الطلاب المتظاهرين.
مظاهرات الطلاب الآن ملعونة لأنها لم تعد على هوى «صاخب المخل» الذى يمنح ويمنع ويخفض ويرفع ويقبض ويبسط، فأعداؤه بالأمس صاروا حلفاءه اليوم، وحتى من لم يصبحوا حلفاء بعقد دائم ولا زالوا ينتظرون فرصتهم فى التثبيت، لن تجد أغلبهم يلقى بالا إلى معاناة أمثال طلبة الأزهر، فهم محسوبون على «الأغيار» من أنصار جماعة الإخوان الذين بصمت غالبية نخبتنا المدنية على حكم سلطة اللواءات بأنهم ليسوا مواطنين لديهم حقوق يجب أن تصان وتحترم، ولذلك يجب الصمت على كل الانتهاكات التى يتعرضون لها لكى نستطيع كتابة دستور ليبرالى عظيم يصون الحريات والحقوق، ولم يعد من الملائم أن نذكر بخطورة العقاب الجماعى بحق هؤلاء، حتى لو كان صمتنا عليه وتهاوننا معه سيؤدى فى النهاية إلى توسع دائرة الأفعال الإرهابية الإجرامية التى ترى فى كل ضابط شرطة أو جيش هدفا يجب التخلص منه.
سيخرج الآن ألف من يقول لى: وهل تظن بفكاكتك أنك لو استنكرت كل الانتهاكات التى ترتكب فى حق أنصار الإخوان ستنجح فى وقف العمليات الإرهابية التى تستهدف الضباط والجنود؟، وسأرد مجيبا على السؤال بأسئلة: وهل أوقف تلك العمليات الإجرامية مباركتك لتلك التجاوزات أو حتى صمتك عليها؟، وإذا كنت ترى مواقفى مثالية فهل يمكن أن تقول لى ما الذى حققه لك وللبلاد موقفك الواقعى فى مباركة نهج القمع الذى يقودنا من أزمة إلى نقرة إلى دحديرة؟، هل تعتقد أن الطالب الذى يرى زميله يقتل بالرصاص إلى جواره سواءً كان مشاركا فى المظاهرات أو كان عابرا لحال سبيله، سيكون عونا على إكمال خارطة التفويض التى لم تنتج إلا المزيد من الفشل والدم.
سأواصل أسئلتى لكل رموز السلطة الحاكمة: هل تتوقعون أن أى طالب مصرى بعد أن تمرد على حاكم كذاب كان يريد أن يسرق حريته باسم الحفاظ على ثورة يناير سيصفق لسرقة حريته باسم الحفاظ على ثورة يونيو؟، وهل تظنون أن طلبة مصر بالغباء الذى يجعلهم يتقبلون رفضكم لتمردهم بعد أن كنتم تباركونه حين كان يصب فى مصلحتكم؟، هل تظنون أنكم يمكن أن تتقدموا بالبلاد نحو المستقبل وأنت تضربون المستقبل بالرصاص والخرطوش وقنابل الغاز وكذب برامج التوك شو؟، هل تعرفون فى التاريخ كله حاكما قمع الطلاب وتحداهم ثم أفلح؟، حاول ذلك عبدالناصر الذى كان أجعص وأجمد منكم فى الإنجاز والشعبية وفى القمع أيضا، لدرجة أنه عندما آذته مظاهرات الطلبة عقب النكسة فكر أن يضربها بالطيران، وبرغم أنه كان يعمل فى خدمته مثقفون أجعص ممن يعملون فى خدمتكم، إلا أنه انحنى أمام غضبة الطلاب فى النهاية، مع مراعاة أن عبدالناصر كان يحارب اسرائيل لإصلاح خطئه الذى تسبب فى النكسة، ولم يكن يحارب مواطنين مصريين من أجل تثبيت مصالحه ومكاسبه مثلما تفعلون الآن.
اتقوا غضبة الطلاب، فدولتكم البائسة بكل جبروتها المرتبك، قد تستطيع إطالة عمر الحاضر المزرى الذى صنعته، لكنها لن تستطيع تأخير قدوم المستقبل إلى الأبد.