لماذا اختفت عن جميع الشاشات والمحطات ومنذ فترة طويلة كل الأغانى التى تم إنتاجها من أجل ثورة 25 يناير ومن أجل التذكير بمطالبها وشهدائها؟، لماذا ترفض القنوات التليفزيونية عرض الأفلام التسجيلية التى وثقت وقائع الثورة المهمة بالصوت والصورة للرد على كثير من المغالطات المشبوهة التى يتم ترويجها الآن عن أحداث الثورة؟، لماذا لم يتم عرض فيلم (18 يوم) الذى شارك فيه كثير من فنانى مصر متبرعين بأجورهم برغم عرضه فى مهرجانات دولية كثيرة؟.
لست أطرح هذه الأسئلة الآن لأنها ستلاقى إجابات، بل لكى أطلب منك أن تضع إلى جوارها سؤالا جديدا هو: لماذا رفضت الرقابة عرض فيلم (الميدان) للمخرجة جيهان نجيم ضمن فعاليات بانوراما السينما الأوروبية قبل أيام؟، فى الوقت الذى يلاقى نجاحا ساحقا عند عرضه خارج مصر، لدرجة أنه تم اختياره ضمن القائمة القصيرة للأفلام المنافسة على جائزة الأوسكار للأفلام التسجيلية الطويلة؟.
كنت سعيد الحظ عندما أتيحت لى مشاهدة فيلم (الميدان) الشهر الماضى خلال عرضه فى مدينة نيويورك، حيث عرض لمدة أسبوعين عرضا تجاريا فى إحدى شاشات (منتدى الفيلم)، وحقق نجاحا نقديا رائعا، وكان يمكن أن يستمر عرضه تجاريا لمدة أسابيع لو أقبل آلاف المصريين والعرب المقيمين فى نيويورك على تشجيعه ودعمه، لكن ذلك لم يحدث للأسف الشديد، فى حين أن فيلم (وجدة) السعودى للمخرجة المتميزة هيفاء المنصور ظل لأكثر من شهرين موجودا فى دور العرض بسبب دعم شركته المنتجة التى يمتلكها الأمير الوليد بن طلال، كان انطباعى الأول بعد أن شاهدت الفيلم وقبل أن أعرف أن شبكة (نيت فليكس) أنجح قناة لعرض الأفلام على الإنترنت قد اشترت حقوق عرض الفيلم، أنه لن يعرض أبدا فى مصر، ولذلك قلت للكثير من أصدقائى أن عليهم أن يحرصوا على مشاهدته فورا، لأنهم لو لم يشاهدوه فى أمريكا فلن يشاهدوه فى مصر، وعندما استغربوا تشاؤمى قلت لهم إن مشاهدة الفيلم ستفسر ما قلته، وللأسف اتضح أننى كنت محقا فى تشاؤمى، على الأقل حتى الآن، وستكشف الأيام القادمة هل ستسمح الرقابة بعرض الفيلم كاملا أم ستشترط حذف العديد من مشاهده التى لم تعد مناسبة للطريقة التى يعاد بها كتابة تاريخ الثورة المصرية بشكل يلائم مزاج الجهات العسكرية والأمنية التى يظن بعض المتنفذين فيها أن التاريخ يمكن أن تعاد كتابته إلى الأبد، مع أن من سبقوهم إلى الجلوس فى مناصبهم عقب ثورة يوليو حاولوا ذلك بمنتهى الشراسة، وفشلوا.
أجمل ما فى فيلم (الميدان) أن مخرجته الرائعة جيهان نجيم لم تتعجل رواية قصة ميدان التحرير، بل صبرت صبرا مدهشا لأكثر من عامين و8 شهور قامت فيها بتوثيق قصة ميدان التحرير من خلال تتبع العلاقة التى نشأت بين ثلاثة أشخاص أحدهم الممثل المصرى العالمى خالد عبدالله (بطل فيلم عداء الطائرة الورقية) والذى عاد إلى مصر مع اندلاع الثورة ليجد نفسه فى ميدان التحرير ويبقى فيه، وشاب مصرى عادى اسمه أحمد حسن ارتبط بالثورة وتطور وعيه معها بشكل مثير للدهشة ستلمسه بنفسك على الشاشة، وعضو بجماعة الإخوان اسمه مجدى عاشور منقسم على الدوام بين عشقه لرفقاء الميدان وبين التزامه بتعليمات تنظيمه الذى بادر إلى خيانة الثورة مع أول منعطف، ويعرض الفيلم كيف تطورت علاقات هذه الثلاثة صعودا وهبوطا وتقاربا وتأزما بدءا من يوم 25 يناير وحتى فض اعتصام رابعة العدوية.
أعتقد أن مجرد قراءتك لهذه الفكرة ستجعلك تدرك مدى أهمية الفيلم الذى يقدم لقطات مدهشة حتى لمن عاصر الثورة ورآها رأى العين فى الميدان، لكن الأهم والأجمل أنه لا يكتفى بنقل تلك اللقطات كما فعلت عشرات الأفلام، بل ينجح من خلال اختيار تيمة الصداقة التى جمعت ثلاثة من ناس الميدان، فى التعبير عن روح الثورة بكل أحلامها وآلامها وآمالها، بشكل يدفعك للضحك أحيانا والبكاء أحيانا أخرى والحسرة فى كل الأحيان على الفرص التى تم إهدارها لتحويل روح ميدان التحرير إلى طاقة بناء شاملة فى مصر.
فى قاعة العرض تعالت أصوات البكاء فى أكثر من موضع كان أصعبها لقطات بكاء أم دانيال شهيد الثورة المصرية فى مذبحة ماسبيرو فور علمها بقتله، ومشاهد مذبحة محمد محمود الأليمة، ومع ذلك فإن كل مشاعر الحزن التى تنتابك أثناء المشاهدة وأنت تسأل نفسك «كيف تحملت البلاد كل هذا العك والعذاب والإجرام؟»، تتبدد كلما أطل الشاب المغمور أحمد حسن على الشاشة بابتسامته الواثقة من انتصار الثورة وبمقاومته الساخرة للإحباط الذى ينتابه بفعل الدم والقمع، ليذكرك بأن الثورة المصرية لم تعد ملكا لكل من اشتهروا بمشاركتهم فيها، بل صارت ملكا لآلاف المغامير الذين يواصلون دفع أثمان باهظة وهم يدفعون مسارها إلى الأمام فى مواجهة الإستبداد والفساد، وهؤلاء لن يحبطهم قصف قنابل الغاز ولا عهر التوك شو، لأنهم لن يقبلوا ثانية بأن يدفنهم أحد «بالحيا»، ولن يقبلوا أن يتحدث أحد باسمهم، ولن يسمحوا بأن «تصفصف» أهداف الثورة على تحقيق مكاسب شخصية لهذا السياسى أو ذلك الإعلامى، وسيظل غضبهم الطاقة التى تمنع إخماد صوت الثورة حتى تحقق كل مطالبها التى خرجت من أجلها.
لا أدرى إلى أين سيصل تعنت الرقيب مع فيلم (الميدان)، لكن ما أدريه أن التعتيم على ملفات السنوات الماضية المليئة بالآلام والدماء، تحت مسميات حماية الأمن القومى واستقرار الجبهة الداخلية، لن يحقق أى أمن ولا استقرار، بل سيقوم بتعقيد المشاكل واستفحالها، وإذا كنا حقا حزانى على الزعيم الأفريقى الأسطورى نيلسون مانديلا وراغبين فى الاستفادة من تجربته فى تطبيق منهج العدالة الانتقالية، فمن المؤكد أن سياسات الطلسقة والتعتيم والطبطبة لا علاقة لها بهذا المنهج من قريب ولا من بعيد، ولعل اختبارا مثل عرض فيلم (الميدان) الذى يواجهنا بحقيقة ما حدث فى مصر خلال الثلاث سنين الماضية، سيكشف هل نحن راغبون فى عدالة انتقالية تخرجنا من النفق المعتم الذى يظن البعض أن الخروج منه سيكون بالحفر إلى الأسفل نحو مزيد من الظلم والدم والوساخة.
وإن غدا لصانعه قريب.