أيمن الجندى يكتب | «بط» بن «وز»
اسمع هذه القصة الواقعية الطريفة التى تنتمى إلى الكوميديا السوداء. كنت أمر على قرية برما، القريبة من طنطا، والمشهورة بصناعة الدواجن. ووسط الزحام الشنيع شاهدتُ أغرب مشهد ممكن. عشرات آلاف من البط الصغير يسير وسط السيارات فى طمأنينة. لوهلة لم أصدق عينى لغرابة المشهد، ثم سرعان ما عرفت التفسير.
نحن الآن فى عام ٢٠٠٥. حينما سمعنا عن «أنفلونزا الطيور». ورغم أن الحكومة لا تعبأ بحياة المواطن المصرى. ورغم أن لدينا أقوى جهاز مناعة فى العالم، لأن عندنا أسوأ تلوث فى العالم. ورغم أننا نأكل الطعام المسرطن والقمح المخلوط بالدود والطعام منتهى الصلاحية المخصص أصلا للقطط والكلاب، لأن معدتنا، كما يعتقد المسؤولون، تهضم الزلط. ورغم هوان الإنسان المصرى على حكومته، ورخص حياته المُسعرة عندهم فى حوادث القطارات ببضعة آلاف، فإنه حين ظهرت فى الصين بضع حالات أنفلونزا طيور، حتى تملكت الهستيريا حكومتنا الحنونة، وصرخت: «أوه. أنفلونزا الطيور! يا للهول! يجب أن نسارع إلى حماية النبلاء المصريين ذوى الدم الأزرق، الذين لم يشربوا إلا الماء المقطر ولم يأكلوا إلا الكرواسون المعقم».
وقد كان. قررت الحكومة قطع أرزاق الريفيات البائسات اللاتى يعشن على تربية البط فوق السطوح. تخيل معى بطا ينال أروع عناية. تقوم الريفية الباسلة بتزغيطه بطريقة مسجلة مصريا، وذلك بوضعه تحت أردافها الوفيرة فلا يظهر من البط إلا العنق الطويل والعينان اللعوبتان. ثم تضع الطعام فى منقاره العاجى، بعدها تطلق سراح البطة اللعوب ذات المشية الغنوج لتتصرمح فى الشمس، ويغازلها ذكور البط. وهكذا تعيش البطة حياة سعيدة حتى تحتاج صاحبتها إلى بعض النقود، فتحملها فى الحافلة الريفية إلى السوق لتكاكى وتبدى رأيها فى الحياة، وترمق الفلاحين فى فضول بعينيها اللعوبتين.
بطة تلقت عناية هكذا، ماذا تتصور أن يكون طعمها؟ لحمها المشبع بعطف الأمهات وطعم الشمس ورائحة الأرض السمراء الطيبة. هذه الطيور قررت حكومتنا، لسبب مجهول، أن تقضى عليها قضاء مبرما. فى البدء جرمت تربية الطيور فوق السطوح، ثم منعت بيع الدواجن حية، دون أن تكون هناك مبردات تتسع لأطنان اللحوم البيضاء، فضربت صناعة الدواجن فى الصميم، وتدنى سعر الدجاجة إلى جنيه واحد، فأفلس صغار المنتجين وخربت بيوت كثيرة.
وكان تفسير البط الذى يسير بين السيارات أن عنابر الدواجن حين عجزت عن إطعامه استفظعت إجاعته فأطلقت سراحه. لكن البط أثبت أنه «ابن وز» فعلا ويستطيع أن يتصرف. ذهب فى طوابير إلى المزارع القريبة باحثا عن طعامه. وبالطبع لطم الفلاحون على أصداغهم، وذهبوا ليتشاجروا مع أصحاب الدواجن. والطريف أنه فى نهاية الأمسية عاد البط إلى عنابره ليقضى فيها سواد الليل، حيث إنها لا تعرف مكانا غيره.
بدا الأمر كمسرحية تنتمى إلى اللامعقول. أما النهاية فكانت كالتالى: عند عودتى شاهدت تجمهرا رهيبا من الشباب الذين يبدون كبلطجية. وبالطبع تصورت أنها مظاهرة احتجاجية على قطع الأرزاق والخراب الذى ضرب القرية، وإذا بالمفاجأة أنهم خرجوا يحتفلون بفوز الأهلى. وهكذا أثبت البط أنه ليس سهلا على الإطلاق، وأنه أكثر عملية من البشر بكثير وأعظم احتراما لقيم الحياة. الأمر الذى يدفعنى أن أطلب من السيد بطوط أن يتوسط لى ويقبل عضويتى فى مدينة البط.
المصدر:المصرى اليوم