عمرو خفاجى يكتب | ضجيج الأحزاب وطحينها
من الواضح أن معضلة الحياة الحزبية فى مصر، معضلة حقيقية لا تستجيب لأى حلول أو علاجات، وغالبا تترك نفسها، مع تشابكات الأحداث السياسية، لمزيد من التعقيد، حتى صارت من الأمور المستعصية على الحل، والأزمة ظاهرة للعيان وللقاصى والدانى، ولا أحد يجرؤ على الاقتراب منها ومحاولة حلها وفك طلاسمها، على الرغم من أن الحياة الحزبية هى الطريقة المعتادة السالكة صوب الديمقراطية، وربما كان هزال الأحزاب وضعفها، فى مقدمة مبررات كل من يذهب للقول بأن الشعب المصرى غير مؤهل للديمقراطية، وهى مقولة فاسدة الشكل والمضمون، فحتى لو سلمنا بصحتها عبر دلالات مدرسية، وبدائية، فكيف يتعرف الشعب على أمر لم يعرفه أو يمارسه، والمنطق يقول أن تتاح الديمقراطية أولا، وبعدها سنكتشف بسهولة أكذوبة أن الشعب غير مؤهل للديمقراطية، وأن الإنسان، أى إنسان على ظهر هذا الكوكب، مهيأ للمارسة الديمقراطية، التى لم نرها حتى هذه اللحظة.
علينا أولا أن ندرك عمق الأزمة الحزبية فى بلادنا، فليس صحيحا أن تاريخها كان ناصع البياض، بل على العكس تماما، فبعد نشأة الأحزاب بسنوات قليلة، وقع غالبيتها فى مساحة بالغة الرداءة بين الولاء للإنحليز أو الإنطواء تحت سيطرة القصر الملكى، ومن حاول الفكاك من الخيارين لم يجد أى فرصة للوجود، وكان ذلك الدافع الرئيسى لثورة يوليو لحل جميع الأحزاب ووأدها بلا رجعة، على اعتبار أنها كانت محرك الفساد قبل يوليو ١٩٥٢، وحتى عندما أعاد السادات الروح للحياة الحزبية، لم تستطع مصر التخلص من فكرة التنظيم الواحد (الاتحاد الاشتراكى) وعادت سريعا بالحزب لمفهوم التنظيم الموالى للرئيس (لا يختلف كثيرا عن الولاء للملك) فصار حزب «مصر» هو التنظيم السياسى الجديد، ومن بعده الحزب الوطنى فى مسخرة تاريخية غير مسبوقة، حينما خرج السادات من حزب مصر وأسس الوطنى فانتقل الجميع إليه، ليصبح كل شىء الرئاسة والحكومة والمحافظين والبرلمان والشورى والمحليات وجميع القيادات، ليكون هذا الحزب وممارساته البغيضة الفاسدة أحد أهم دوافع ثورة يناير ٢٠١١.
هذه الصورة الذهنية السيئة التى ترسخت عبر ما يقرب من مائة عام، تسببت فى هروب الأجيال الجديدة من الحياة الحزبية، حتى إن البعض اعتبرها عارا وتهمة دائم نفيها عن نفسه، طبعا أحزاب معارضة حكم مبارك ساعدت كثيرا فى رداءة صورة الأحزاب، وبالتالى حينما انفتح المجال العام بعد ثورة يناير، ارتبك الجميع حيال فكرة تكوين الأحزاب بين فشل البعض فى التكوين، وذعر البعض الآخر من الفكرة، فدامت السيطرة، إلى حد ما، للأحزاب التقليدية، أو رجال ما قبل يناير فى صورة أسماء جديدة لأحزاب هى قديمة بأشخاصها وأفكارها، وبالتالى استمرت حالة غياب الجماهير عن الأحزاب وتعطلت جميع روافع الحراك الديمقراطى.
كان من الأمور المضحكة المبكية فى زمن مبارك، أن الأحزاب كانت لا تخجل من ذكر أنها لا تسعى للسلطة، بما فى ذلك جماعة الإخوان المسلمين، والآن تبدو جميع الأحزاب سلطوية راغبة فيها عاشقة لها، لكنها لا تفعل أى شىء من أجل ذلك، فمازال معظمها (الجديد والقديم) لا يخوض معارك الناس ولا يبحث عن تحقيق مطالبهم، وإنما اكتفى الجميع باختراع سلطة جديدة نافذة من أجل العراك النخبوى معها، تماما كما كان يحدث قبل الثورة، أما الذهاب للجماهير والتواصل معهم فهى من الأمور التى لا تعرفها القوى السياسية حتى الآن ومن الواضح أنها لا ترغب فى معرفتها، وتلك مصيبة الخواء السياسى الذى نعيشه ولا نسلم من صراخه وضحيجه ولا نرى طحينه، أو على الأقل هذا ما حدث حتى الآن.