أيمن الجندى يكتب | استيحاش
حينما كنت صغيرا وغريرا وهشا، حديث العهد بالحزن، ومفعما بالدهشة، كنتُ وقتها على أعتاب العالم أنفق معظم يومى فى استكشاف الكون والتعرف على عالمى الجديد. وكان بيتنا الجميل الواسع له شرفة غربية مطلة على الشارع العمومى، وأخرى شرقية مطلة على حديقة داخلية يسبح فيها الفراش الملون على أثير الضوء. وكانت غرفة والدى فى ذلك الجناح. صامتة دائما، معتمة غالبا، مواربة الباب. يستيقظ أبى القاضى قبيل الفجر، فيصلى ثم يعكف على قضاياه. وبعد أن ينتهى من عمله، الذى يستغرق معظم اليوم، يرقد على سريره مستعذبا الصمت، مصغيا إلى الراديو أحيانا، أو مستغرقا فى لحنه الباطنى. أما أنا فأذهب وآجى، هنا وهناك، محدثا أكبر قدر من الضجيج، كقرد صغير لا يكف عن الوثوب. ولم أكن أعلم وقتها أن شخصيتى تتكون وذكرياتى تُنقش فى هذه اللحظات.
أحيانا، فى أوقات نادرة، كان يحدث شىء عجيب فوق قدرتى على الفهم والاستيعاب.
حين يجن الليل، وأكون قد فقدت معظم طاقتى، وخلد البيت إلى السكون، وأُطفئت الأنوار تباعا توطئة للنوم، يتصادف أن أسمع من خلف باب أبى الموارب صوتا شجيا يتلو القرآن. لم يكن يشبه صوته المعتاد الذى ألفته وهو يتلو ورده اليومى من القرآن. بل كان صوتا آخر، شبيها بتجويد الشيخ محمد رفعت، ولكنه أكثر حزنا منه. لا يخرج من حنجرته وإنما من أبعد نقطة فى روحه، وكأنه يستقطر كل شجون الكون. يتلو هذه الآيات من سورة يوسف بصوت يقطر حزنا واستيحاشا (وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ. قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ. قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
أذكر أننى كنت أقف وقتها على أطراف أصابعى، كاتما أنفاسى، متجمدا خلف الباب الموارب، لا أجرؤ على الدخول ولا أقوى على الانصراف. وكأننى بالفطرة قد أدركت، رغم سنى الصغيرة، أن أبى المهول، الأبهى من الشمس، والأقوى من القدر، يشتمل على كل هذا الحزن والاستيحاش. وكان هذا يجعلنى أضطرب. فالأب معنى عملاق يشتمل على الثقة والقدرة والأمان. ولم أكن أتصور وقتها أنه يحزن أو يضعف أو يخاف. ولذلك فقد عملت الدفاعات النفسية عملها، وبرغم كثرة ما كتبت عنه من ذكريات طفولتى، فقد مُحيت هذه الذكريات تماما أو هكذا ظننت.
ودار الكوكب الأرضى حول نفسه عدة مرات. وحملتنى سفينة الأيام فى بحرها اللجى وتعاقب الليل والنهار. وعاد الزمان كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. لم أنتبه أننى صرت أفضل المكوث فى الظلام. ولم أنتبه أننى أوثر الصمت، وأستغرق فى لحنى الباطنى. لم أنتبه أن لكل منا (يوسفه) الذى يبكى عليه ويشتكى إلى الله.
وفجأة، فى عمق الليل، عاد الصوت. عادت الترنيمة تتحسس الظلام، وكأنها تتهيب أن تخدش جلال الصمت. صوت حزين شجى يقول فى عمق الليل: (إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون).
ارتجفت وقد عادت الذكرى المنسية، وتلفتُ باحثا هنا وهناك عن رجل يحمل كل هذا الحزن ويبكى (يوسفه)! ونسيت، وأنا أبحث عن الصوت المستوحش، أنه لا يوجد أحد غيرى فى هذا البيت.