محمد فتحى يكتب | حضرة الضابط يكتب عن الشهادة
فى صباح ذلك اليوم وصلت متأخراً إلى عملى على غير العادة.. وبالطبع كانت ابنتى العزيزة ذات الثلاثة أشهر هى السبب فى ذلك بعد أن مارست حيلة الاستيقاظ مبكراً وإرسال ابتساماتها التى تحمل الماركة المسجلة المطلقة للبراءة والأمل، ثم زوجتى التى أصابتها حالة وسواس قهرى بعد هذا الكم الهائل من شهداء الجيش والشرطة، والتى تجعلنى أقرأ ما يصل إلى جزء كامل من القرآن قبل خروجى من باب الشقة مع تذكيرى بحجم التهديدات على شخصى واحتياجها ووالدتى وابنتى إلى وجودى معهن.. تحركت بسيارتى مسرعاً، وبعد أن انتهيت من قراءة أذكار الصباح التى اعتدت قراءتها أثناء توجهى للعمل لم أمارس عادتى اليومية بإدارة مؤشر المذياع على محطة إخبارية.. شىء ما جعلنى أستمع إلى بعض الأغانى عميقة المعانى فى نفسى الثائرة دائماً.. أغان من عينة «أتحدى لياليك يا غروب» للملك منير، أو «يبكى ويضحك لا حزناً ولا فرحاً» رائعة الأخطل الصغير بصوت الحالم زين محمود، أو «زهرة المدائن» لفيروز جمهورية الإحساس الدائم.. ثم استغرقت فى أحلامى السابقة.. أحلام بصلاة فارس منتصر بالمسجد الأقصى، يليها حفل كبير فى الحى القديم من القدس العتيقة، احتفالاً بعودتها إلى سيادة دولة فلسطين المستقلة.. حلم بوطن يتسع لعظمة ما فى قلوب أبنائه من خير وإن أخفوه، ويجمع شمل أبنائه وإن تفرقوا ويثور على خائنيه وفاسديه وإن حكموه.. مرت علىّ ذكريات خدمتى الممتدة لأكثر من 16 عاماً بالقوات المسلحة منذ اليوم الأول الذى تطأ فيه قدمى أرض طابور الكلية الحربية وامتلائى فخراً بانتمائى إلى مؤسسة أنجبت المشير الجمسى، والفريق سعد الدين الشاذلى، والمشير محمد على فهمى.. إلى آخر طابور عظماء العسكرية المصرية العريقة.. وحتى اليوم الذى أعيشه الآن، والذى أضطر فيه إلى تفتيش سيارتى قبل ركوبها، خوفاً من تفخيخها بواسطة كائن طفيلى -للأسف- يحمل بطاقة هوية مصرية وأردد الشهادة وأنا أتحسس طبنجتى عندما تمر بجوارى دراجة بخارية لعلها تكون من النوع الذى مر بجوار اللواء محمد السعيد ومنحه لقب «شهيد الواجب».. شعرت بدموعى تسيل على خدى بعد أن اختلطت فى نفسى ضحكات ابنتى بتوسل زوجتى من أن أكون أكثر حرصاً على حياتى على خلفية صوت «فيروز» وهى تصرخ: «الغضب الساطع آت وأنا كلى إيمان.. من كل طريق آتٍ سأمر على الأحزان».. اخترقت دموعى حالة السكون النفسى الناتجة عن قراءة أذكار الصباح وأجبرتنى على أن أُدفع دفعاً إلى تلك الحالة المزاجية السيئة التى أمقتها، والتى -غالباً- ما أفشل فى الخروج منها خلال فترة وجيزة.. وصلت عملى فى حالة سيئة يُضاف إليها حالة الإرهاق المزمنة الناتجة بالطبيعة عن قلة نوم مفرطة وعمل مُجهد يمتد إلى أكثر من تسع عشرة ساعة يومياً.. وكان أن بدأت يومى فى العمل بالاستماع إلى التسجيل الصوتى لشهداء الطائرة التى أُسقطت غدراً فى شمال سيناء.. آه وألف آه عندما يُجبرك العمل على أن تتعامل مع موت زميلك ودفعتك على أنه رقم وحالة.. آه ومليون آه عندما تضطرك ظروف العمل لأن تظل متماسكاً محافظاً على لياقتك الذهنية، بينما ثورة غضب تكاد تفتك بجهازك العصبى.. لقد استُشهد خمسة من خيرة أبناء الوطن فى عملية نوعية تتميز بخسة غير مسبوقة.. صلينا عليهم ودفناهم فى مساء يوم احتفل فيه شعبنا الكريم بذكرى ثورة يناير.. ولذلك لم نشأ أن نفسد على المصريين فرحتهم.. كنت أمسح دموعى وأنا أتلقى المكالمات السخيفة من نخبتنا المترهلة المتعفنة يسألون عن ترشح المشير أو عن عودة الدولة القمعية وأتحمل تنظير بعضهم عن تفسيره للدولة العميقة.. بينما القلب يحزن والعين تدمع وثورة فى قلوبنا إن لم نقمعها لأفرزت غضبة للقوات المسلحة لن تبقى فى مصر أخضر أو يابساً.. «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله»
(تنازلت راضياً وفخوراً عن مساحة مقالى اليوم لصديقى ضابط الجيش «أحمد»، الذى تمنعه قواعد القوات المسلحة الصارمة من الكتابة باسمه، لكنه يستحق أن نقرأه)