أيمن الجندى يكتب | مذكرات ميت (١/٢)
بمجرد أن شاهدت مَلَك الموت (لَطَمْت). كان ذلك هو تصرفى التلقائى الذى لم أتعمده. لم يكن الموت يوماً أبعد إلى ذهنى من تلك اللحظة التى دهمنى فيها. كنت مسترخياً على الكنبة الوثيرة أتابع بشغف أحداث فيلم هوليودى. وفجأة شاهدته يملأ فراغ الغرفة. كائن نورانى لا علاقة له بالبشر. أدركتُ فى لحظة خاطفة أنى ميت لا محالة. جاءت اللحظة الفاصلة التى طالما فكرت بها. حمّ الحدث الأعظم الذى لم أستعد له مطلقاً. كنت أتناقش مع صديقى (رائف) فى الموت القادم متفلسفاً، ونتبادل وجهات النظر، لكن كلانا كان يعلم أنه فى آخر الأمسية سيعود إلى بيته هانئاً، وأن الموت المخيف لم يأت أوانه بعد.
فكرت للحظة خاطفة أن أتوسل إليه أن يؤجل موتى، لكننى أدركت عقم المحاولة. أعرف أن الأجل إذا جاء لا يُؤخّر. من العجيب أننى انتقلت إلى العالم الغامض بخبراتى كاملة.
كنت مذعوراً مما سيأتى. فكرة أن العمل انقطع. حقيقة أن مصيرى يُحدد الآن وإلى الأبد. الأبد فكرة غامضة نحاول عبثاً أن نستوعبها. أنّ العذاب إلى الأبد! والنعيم إلى الأبد! كنتُ فى الدنيا أعادى الزمن، ولم أفطن وقتها أنه رحمة.
شاهدت جسدى وهو يتهاوى. رأيت وجهى وهو مُغمض العينين. لأول مرة أشاهد نفسى من الخارج. العجيب أننى لم أبال. كانت فكرة تحلل الأجساد فى الدنيا تعذبنى، لكنى الآن لم أهتم. أدركت أن الجوهر الكامن فى الإنسان غير قابل للتلف. الملفات المهمة فى جهاز كمبيوتر يمكن نقلها إلى جهاز آخر. أما الجسد فما هو إلا بذلة أو فستان، حسب كونك ذكراً أو أنثى، تخلعه ثم ترتدى رداء آخر وتمضى فى طريقك.
رحت ألطم على وجهى، أنا الوحيد الذى يعلم ماذا اقترفت بالضبط. وإن كنت قد استطعت فى الدنيا أن أبدو بسَمْت الصالح، أو ستر الله ذنوبى عن الخلق، فإننى أعرف ماذا اجترحتُ فى الغرف المغلقة حين كان الرقيب هو الله. كنتُ أكتئب حين أسمع الناس يثنون علىّ. كانوا يدعون أن يُكثر الله من أمثالى وكنت أدعوه ألّا يستجيب!
شاهدت على وجه الملاك حزناً قاتلًا. ارتعبت أكثر. أيكون هذا الحزن لأنه يعلم مصيرى الأسود! لكنه قال على الفور، وكأنه يقرأ أفكارى، إنه لا يعلم ماذا يصنع الله بى! الغيب علم محصور على الله تعالى. شعرت ببعض الأمل. لم أفهم وقتها أن الملاك كائن نورانى، يحب الخير لكل الناس ويتمنى النجاة للبشر. لم أكن أعلم أنهم يشاهدون تخبطنا التعس فى الحياة فيشعرون بالأسف الشديد. نسيتُ أنهم يتوددون إلى خالقهم بالتسبيح توطئة للدعاء على أمل القبول (الذين يحملون العرش ومن معه يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شىء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم).
قال متألماً :«كلما شاهدنى بشر لطم على وجهه! لماذا وضعتم أنفسكم فى هذا المأزق! ألم تكن ساعات الليل والنهار تتسع لكل عمل صالح!». وددت لو أقول له إن هذا ليس وقت العتاب! أو أن «العايط فى الفايت نقصان فى العقل». أو إننى لن أكرر الخطأ مرة أخرى، ولو عدت إلى الوراء لانتهزت كل ساعة فى فعل الخير. أو أقسم له أننى (حَرّمت).
(نتابع غداً إن شاء الله).